جاءت النكبة الأندلسية الكبرى بسقوط غرناطة وما تلاها من مأساة الموريسكيين التي استمرت ما يزيد عن القرن حتى انتهت بطردهم نهائياً سنة 1614، في خضم زلازل سياسية وحضارية شهدتها القارة الأوربية، كان أبرزها انطلاق عصر النهضة الأوربي وصحوة أوربا من سبات قرون طويلة، والحركة الدينية المتمثلة بظهور مارتن لوثر ومذهبه البروتستانتي، والذي شكل تحدياً رهيباً للكاثوليكية التي كان ملوك إسبانيا الكاثوليكيين ومن بعدهم من ال الهابسبورغ عمادها الرئيسي وأكبر المنافحين عنها. وكان التحدي الكبير الأخر هو الدولة العثمانيـة، القوة الإسلامية الكبرى ومتزعمة العالم الإسلامي، و التي وطأت قلب القارة العجوز بسنابك خيلها وأحاطت جيوش سلطانها سليمان القانوني بفيينا، عاصمة الوسط الأوربي الشهيرة. كما جعلت البحرية العثمانية بقيادة أفذاذ من أمثال خير الدين بربروسا وأخوه عروج وغيرهم من البحر المتوسط بحيرة عثمانية خالصـة. وكان نشاطهم البحري في غرب البحر المتوسط كابوساً إسبانياً مستداماً. كل هذه العوامل رسمت ملامح التعامل الإسباني مع القضية الأندلسية وأثرت في مسارات الأحداث. إضافة لذلك فقد تداخلت علاقات السياسة الأوربية بشكل كبير في القرن السادس عشر مع قضية الدين والزيجات الملكية. وكل تلك العوامل كانت في الذهن الإسباني الذي رأى في مملكة غرناطة والموريسكيين لاحقاً، مشكلة داخلية وعاملاً مؤرقاً وجب حسمه.
ولكي نستطيع رسم الصورة لتلك الفترة المهمة جداً من التاريخ، يتوجب علينا بداية معرفة الرموز الأساسية للسياسة الأوربية، من خلال معرفة الشخصيات الأوربية الكبرى المشكلة لأحداث القرن السادس عشر وما حوله، وفهم صلاتها وعلاقاتها بشكل مبسط.
في الصـورة رقـم واحد (1) نرى ماكسيميليان هابسبـورغ، الإمبراطور الروماني المقدس وملك ألمانيا وأرشدوق النمسا، وهو أحد أفراد عائلة الهابسبورغ الأوربية الشهيرة التي يعود تأسيسها للقرن 13 للميلاد. هذا الرجل أنجب ولداً اسمه فيليـب الوسيم في الصورة رقم (2)، فيليـب الوسيم بدوره تزوج خوانـا المجنونة في الصورة رقم (5)، وهي ابنة إيزابيلا في الصورة رقم (3) وفيرديناند في الصورة رقم (4)، الملقبان بالملكين الكاثوليكيين، ذلك الإسم المعروف للجميع، فهم من أخرج أخر المسلمين من الأندلس واحتل غرناطـة.
فيليـب الوسيم وخوانـا المجنونة حكما إسبانيا بعد إيزابيلا وفيرديناند، بالإضافة إلى كثير من الأملاك الأوربية وبالترافق مع بدء الاستعمار في العالم الجديد، وأنجبا طفلين، الأول هو أقوى شخصية في تاريخ إسبانيا، وهو كارلوس الخامس في الصورة (6)، والذي سيصبح الإمبراطور الروماني المقدس وأقوى رجالات العالم المسيحي وند السلطان العثماني سليمان القانوني، و موجه الحملات العاتية على الشمال الإفريقي المسلم.
أما الطفل الثاني فهو فيرديناند الأول في الصورة (7). فيرديناند الأول تقاسم مع أخيه حكم أوربا باستلام شؤون النمسا وألمانيا ووسط القارة، وخلفه كإمبراطور روماني مقدس بعد وفاته.
فيرديناند وإيزابيلا في الصورتين (3) و (4) لم ينجبا فقط خوانـا المجنونة، بل بنتاً أخرى اسمها كاثريـن من أراغـون في الصورة (8)، والتي ستصبح ملكة إنكلترا بزواجها من ملك إنكلترا هنـري الثامن في الصورة رقم (9). يعد هنري الثامن من أشهر شخصيات إنكلترا في التاريخ ويعد عهده مفصلاً من مفاصل تاريخها، حيث بدأ ظهور البروتستانتية في عهده، وتزوج 6 مرات، وهو الذي حوّل مسار إنكلترا الكاثوليكية لتصبح في عداء مع البابا، لأنه أراد الزواج من آن بوليـن في الصورة رقم (10). آن بوليـن ملكة انكلترا المشهورة جداً كانت عشيقة هنري الثامن، والذي أرسل زوجته السابقة كاثرين من أراغون إلى أحد القصور وحجر عليها ليتمكن من الزواج منها. فشل آن بولين في إنجاب ولي للعهد دفع بهنري الثامن ليدبر لها تهمة الخيانة ويتم قطع رأسها.
هنـري الثامن كان من بين أولاده شخصين، الأول هو الملكة ماري في الصورة (12)، والتي كانت كاثوليكية وتزوجت من فيليـب الثاني هابسبورغ في الصورة (11)، وحاولا معاً سحق البروتستانت في إنكلترا وإعادتها إلى حظيرة الكاثوليكية. فيليب الثانـي هذا هو ابن كارلـوس الخامـس (6)، وهو من أكثر الشخصيات قوة ونفوذاً في التاريخ الأوربي، حيث كانت إسبانيا والبرتغال وكل مستعمراتها من الفيلبين إلى أميريكا وجنوب إيطاليا وهولندا وغيرها تحت سلطته. هذا الملك نفسه هو الذي أصدر قراراً بتحريم العربية على الموريسكيين وخاض معارك ضارية في شمال إفريقيا والبحر المتوسط ضد الدولـة العثمانية.
تزوج فيليب الثاني بعد وفاة ماري ملكة إنكلترا من أنـّا هابسبورغ في الصورة (13)، وهي أرشدوقة النمسا وحفيدة الإمبراطور الروماني المقدس فيرديناند الأول في الصورة (7). فيليب وأنّـا أنجبا فيليب الثالث في الصورة (14)، وهو طارد الموريسكيين من الأندلس بشكل نهائي، وقد عمل هو وفيليب الثاني والده من قبل على حرب إنكلترا التي تسلّم زمام قيادتها أهم ملكة في تاريخها، الملكـة إليزابيث الأولى في الصورة (15)، والتي حولت وضع الدين بالكامل في إنكلترا وجعلت البروتستانتية مهيمنة، وهزمت الأسطول الإسباني الشهير ( الأرمادا )، ومهدت لانطلاق إنكلترا كقوة عالمية و استعمارية، وماتت دون أن تتزوج ودون وريث، لينتقل الحكم لشخص اخر. وهي ابنة هنري الثامن من زوجته آن بوليـن.
كل هذه الشخصيات رسمت ملامـح أوربا وتاريخهـا الحديث، وكلها تقريباً كانت في القرن السادس عشر وما حوله. وكانت هذه الأسماء مشكلة للمشهد المسيحي الغربـي، المقابل للعالم الإسلامي الذي يتصدره السلطان سليـم الأول ( في أعلى الصورة )، ومن بعده ابنه السلطان سليمان القانونـي ( في أسفـل الصورة )، ومن جاء بعدهم من السلاطين أمثال سليم الثاني، مراد الثالث، وغيرهم.
