مظاهر التأثيرات القرطبية في الفنون المعمارية المسيحية

مظاهر التأثيرات القرطبية في الفنون المعمارية المسيحية

أولًا : التأثيرات القرطبية في الكنائس المستعربة الاسبانية

لم يتبق من كنائس المستعربين في الأندلس أو في المناطق التي ظلت خاضعة لسلطان المسلمين حتى القرن السابع الهجري إلا آثار ضئيلة لا تكفي لمعرفة ما كانت عليه هذه الكنائس في العصر الإسلامي، ومن آثار الكنائس المستعربة بقايا كنيسة ببشتر التي أقامها عمر بن حفصون في الفترة بين عامي 285 ، 305 هـ \ 898 917 م وذلك بعد تنصره ، ومنها كنيسة سانتا ماريا دي ملكي بطليطلة Santa Maria de Melque التي اقيمت في أواخر القرن التاسع أو بداية القرن العاشر الميلادي وتتميز هاتان الكنيستان بإستخدام العقد المنفوخ أو المتجاوز الذي يتخذ شكل حدوة الفرس وهو عقد ظهر وساد استخدامه في المسجد الجامع بقرطبة وفي فن العمارة الأموية في الزهراء والزاهرة وإشبيلية وطليطلة والمرية وتطيلة.

أما الكنائس المستعربة في الممالك الإسبانية المسيحية فكان عددها أكبر نسبيًا وإن كان ما وصل إلينا منها يعد قليلًا لتعرضها لأعمال التدمير والتخريب التي صحبت حملات المنصور محمد بن أبي عامر وابنه المظفر عبد الملك .
وقد بلغ التأثير القرطبي درجة كبيرة في كنائس اشتورية “استوريس” وتتمثل هذه التأثيرات في شيوع استخدام العقد المنفوخ المتجاوز لنصف الدائرة والنوافذ المزدوجة ذات العقدين التوأمين، إلا أن تأثير الفن الخلافي بلغ ذروته في كنائس جليقية مثل كنيسة سانتياجو دي بنيالبا Santiago de Penalna في مملكة ليون حيث نشهد العقد المنفوخ الذي تجاوز نصف دائرة إلى حد ان استدراته بلغت اتساع ثلثي المحيط، وحيث نرى الطرر المستطيلة تحيط بالعقود، والنوافذ المزدوجة ذات العقود التوأمية.

وكانت مملكة ليون أكثر ممالك إسبانيا المسيحية تقبلًا للعناصر المستعربة وتشبعًا بتأثير الفن الخلافي القرطبي، ففيها أقام الرهبان القرطبيون منشآتهم التي سجلوا فيها الطابع المستعرب، وشهدت العمارة الليونية إبان القرن العاشر الميلادي فيضًا من التأثيرات القرطبية تتمثل بوجه خاص في بازيليكة سان ميجل دي اسكالادا في ليون San Miguel de Escalada التي أسسها القس ألفونسو مع بعض رهبان هاجروا من قرطبة في سنة 913 م، وتتكون البازيليكية المذكورة من ثلاثة أروقة تفصلها فيما بينها صفوف من العقود المتصلة، من النوع المنفوخ المتجاوز لنصف الدائرة، تقوم على عمد على النحو الذي نشاهده في بلاطات المساجد قرطبية الطابع وكوابيل ذات لفائف تشبه الكوابيل القرطبية.

كذلك تتمثل التأثيرات القرطبية أروع تمثيل في كنيسة سان ميّان دي لاكوجويا San Millan de la Gogolia في بلدة لاريوخا La Rioja التي اقيمت في سنة 984 م، وكنيسة سان ثيريان دي ماثوتي San cebrian de Mazote ألتي أسسها القس القرطبي خوان في سنة 921 م، وكنيسة سان بادويل دي برلانجا San Baudel de Berlanga في مدينة سوريه بقشتالة التي اقيمت في العقد الثاني من القرن الحادي عشر، وتتميز بقبوتها القائمة على الضلوع البارزة المتقاطعة كما في مسجد قرطبة الجامع.

ونلاحظ أن بنائي هذه الكنائس استخدموا العقود المنفوخة المتجاوزة لنصف الدائرة من النوع القرطبي استخدامًا عامًا، وقد تتسع هذه العقود كما في كنيسة سان ميجل دى اسكالادا، ونلاحظ في كنيسة سان سلفادور دي فلدي ديرس نافذة لها متكأ فرغت فيه زخارف هندسية جصية متشابكة تشبه كل الشبه احدى متكآت جامع قرطبة، ويتجلى في كنيسة سان ثبريان دي ماثوتي عقد خلافي الطابع يتعاقب في سنجاته اللونان الأبيض والأحمر.

ومن الطريف أيضًا في باب التأثيرات القرطبية أن تخطيط حنية كنيسة سانتياجو دي بنيالبا يتخذ شكل عقد منفوخ أشبه بحدوة الفرس لا يفترق كثيرًأ عن عقد المحراب بالمسجد الجامع بقرطبة.

ثانيًا: اثر القبوات والقباب القرطبية ذات الضلوع البارزة والمتقاطعة في نظام التقبيب في اسبانيا المسيحية وفرنسا

ان جامع قرطبة يضم أقدم أمثلة للقباب ذات الضلوع المتقاطعة، وهذه القباب تعد أقدم من قباب كنيسة أشبط الأرمنية وقبوات الجامع الكبير بأصفهان، كما ان هناك تقارب واضح بين قباب جامع قرطبة القائمة على الضلوع البارزة وقبة المحراب بجامع الزيتونة بتونس حيث تظهر بين فصوص القبة المتشعبة من المركز ضلوع قليلة البروز لم تصل بعد الى المرحلة التي تنفصل فيها عن غطاء القبة، ثم تطور هذا النوع من القباب فيما بعد بطليطلة إلى قبوات حلت فيها الرغبة في استنباط أفكار زخرفية نابعة من الفكرة المعمارية من تقاطع الضلوع محل الفكرة المعمارية الأصيلة التي يعبر عنها تقاطع الضلوع في القباب القرطبية، ويتمثل هذا التطور في نظام التقبيب من الفكرة الهندسية المعمارية إلى التشكيلات الزخرفية في قبوات مسجد باب المردوم بطليطلة الذي يعرف بإسم كنيسة كريستو دى لا لوث او كنيسة نور المسيح وفيها يقوم نظام التقبيب على تقاطع العقود البارزة أو الضلوع في صور مختلفة، منها ما يمثل شكلًا رباعياً منحرفاً ذا أقطار متقاطعة تكسبه شكل قبوتين من الطراز القوطي واحدة بداخل الأخرى، ومنها قبوة ضلوعها المتقاطعة تتخذ نفس التشكيل الزخرفي الناشئ من تقاطع القبة الكبرى بجامع قرطبة.

كذلك يتمثل الاتجاه الزخرفي في تقاطع الضلوع في القبوة التي تعلو الأسطوان الأوسط من مسجد الدباغين المعروف في الوثائق الطليطلية بمسجد المسلمين، ونظام هذه القبوة قوامها أربعة عقود نصف دائرية متقاطعة فيما بينها إثنان رأسيًا وإثنان أفقيًا، ويشغل كل مربع من المربعات التسعة الناشئة من هذا التقاطع قبيبات صغيرة يتقاطع فيها قوسان صغيران .

ثم مر نظام التقبيب القرطبي بمرحلة رابعة استهدفت الناحية الزخرفية الخالصة، وتتمثل في قبة مصلى قصر الجعفرية بسرقسطة وفي قبة المحراب بالمسجد الجامع بتلمسان وهي قبة من النوع القائم على الضلوع المتقاطعة تختلف عن قباب قرطبة وأخيرًا في القبة التي تعلو إحدى القاعات ببهو البنود في قصر الموحدين بإشبيلية وتقوم على اثني عشر عقدًا تتقاطع فيما بينها على نسق قبة المحراب بجامع تلمسان.

ثم طرأ تحول نهائي في نظام القبوات ذات الضلوع عندما ظهرت القبوات التي تبرز فيها ضلوع زخرفية متقاطعة بين الجوفات والدلايات المثلثة والمخروطية التي تشكل المقربصات، ويتجلى ذلك في القبوة المقربصة القائمة اليوم بالمدخل الشرقي من صحن جامع القصبة الكبير بإشبيلية.

ولقد انتقلت فكرة تقاطع العقود البارزة بالقبوات إلى نظام التقبيب في الكنائس المسيحية ذات الأسلوب الروماني فيما بين القرنين العاشر والثاني عشر، وطغى نظام التقبيب القرطبي على نظام التقبيب المصلّب في هذه الكنائس، فتراه واضحًا في قبوة مصلى توريس دل ريو نافارا، وبرج دير موساك، وبوابة كاتدرائية سان برتران دى كومنج واولورون، ومستشفى سان بليز بفرنسا، أما القبوة التي تسقف الغرفة العليا ببرج دير موساك فقد اقيمت فيما بين عامى 1115م و 1120 م وتقوم على اثني عشر عقدًا بارزًا، تنبت من إثني عشر عمودًا ملتصقة بالجدران وتتقاطع هذه العقود فيما بينها حول فتحة وسطى، أما مستشفى سان بليز المعروف بمستشفى الرحمة فقد أقيمت في منطقة جبال البرانس في ممر سومبور الذي يقع في الطريق الذي يسلكه الحجاج الفرنسيون إلى شنت ياقب في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وهي بناء يغلب عليه الطابع الشرقي، إذ أن رواقها الأوسط يزيد ارتفاعه عن الرواقين الجانبيين، وتعلوه عند منتصفه قبة ترتكز على قاعدة مربعة، بأركانها جوقات مقربصة لتحويل القاعدة المربعة إلى عنق مثمن ترتكز عليه قاعدة القبة، وتتوسط جوانب القاعدة المربعة مساند حجرية يتلقى كل منها منبتي عقدين من العقود الثمانية البارزة، التي تؤلف هيكل القبة وتتشابك هذه العقود فيما بينها مكونة شكلًا نجميًا يتوسطه فراغ مركزى، على النحو الذي نشاهده في القبتين المجاورتين لقبة المحراب بجامع قرطبة، واحدى قباب مسجد باب المردوم بطليطلة.

وقبة أخرى وهي في كنيسة سانت كروا بأولورون قوامها هيكل من الضلوع المتقاطعة، يؤلف شكلًا نجميًا كبير الشبه بالشكل النجمي الذي نشاهده في قبة سان بليز، وكل الفارق بين القبتين لا يزيد على أن ضلوع قبة أولورون لا تترك فراغًا مركزيًا، ولا يختلف بناء هاتين القبتين على قباب قرطبة وطليطلة إلا في أنها مبنية من الحجر بقصد معماري بحت.

ويمكننا أن نضيف إلى القبتين المذكورتين قبوة ثالثة، هي قبوة مصلى طلبيرة في الكاتدرائية العتيقة بشلمنقة “سيمنكا” وهي قبوة تذكرنا بقبوة صومعة جامع الكتبية بمراكش، وقبوة بهو البنود بقصر الموحدين بإشبيلية، وقبوة دير لاس اويلجاس بمدينة برغش. Las Huelgas de Burgos

ومن بين القباب التي ترجع إلى القرنين العاشر والحادي عشر والتي تشبه في نظامها قباب جامع قرطبة وطليطلة، ما كان تخطيط عقوده البارزة أكثر بساطة من تخطيط عقود القباب بقرطبة، حيث يميل إلى التخطيط الذي ترسمه التصليبات القوطية الفرنسية فيما بعد، إذ أن العقود البارزة في بعض هذه القباب التي تندرج في قائمة القباب الأندلسية تتقاطع في مركزها دون أن تترك فراغًا مركزيًا، ومن أمثلة هذا النوع من قباب الضلوع ذات التخطيط المصلب في أولورون وفي كنيستي سان ميان دى لاكوجويا وسان بوديل دى برلانجا في قشتالة، وفي قبوة فيراكروث بشقوبية وقبوتي كنيسة سان خوان دى دويرة بسوريه بإسبانيا وقباب كتدرائية خاكا بوشقة والبرج القديم بكتدرائية أييط المعروف ببرج سان سلفادور وبرج سان مرتين دي أويفالو بآبلة وكنيسة القيامة في توريس ديل ريو بنافارا

ولعل هذه الأمثلة جميعًا اتبعت نفس نظام إحدى قبوات مسجد باب المردوم أو قبوة مسجد المسلمين بطليطلة، ولا يمكننا في حالة هذه القبوات أن نفترض تأثرها بالقبوات القوطية الفرنسية، لأنها تقليد لنماذج قرطبية أو طليطلية، ويؤيد ذلك وجود قبوات ذات ضلوع متقاطعة في منطقة لنجدوك وأقطانية وآنجو ونورمندي، ولكنها لا تمت للتصليبات القوطية إلا بصلة بعيدة، لأنها سبقت التصليبات القوطية في الظهور بعهد طويل، ومن ثم فلا يمكن أن نفسر ظهورها على أنها مجرد تقليد خاطئ للقبوات القوطية، كما لا يمكن اعتبارها مجرد تقليد للقباب القرطبية الإسلامية، ولكنها تتخذ حلًا وسطَا بين النظام القرطبي والنظام القوطي، الأمر الذي يدعونا الى الإعتقاد بأنها اقتبست من القباب الطليطلية التي فقدت المدلول المعماري، وغلب عليها الطابع الزخرفي الهندسي، وبذلك يكون فنانو فرنسا قد أخذوا من أساليب العمارة الإسلامية بقرطبة ما يتفق مع رغباتهم وأهوائهم، ولم ينقلوها صورة طبق الأصل.

ولا يهمنا الدور الزخرفي الغالب الذي لعبته القباب القرطبية ذات الضلوع بقدر ما يهمنا ما أدته من خدمات جليلة في إلهام المهندسين الفرنسيين لهذا الحل المعماري الفريد الذي تمثله القبوات القوطية.

ثالثًا : أثر الزخارف المعمارية القرطبية في فن الزخرفة المعمارية الفرنسية

لم تقتصر التأثيرات القرطبية في العمارة المسيحية بإسبانيا وفرنسا على القبوات ذات الضلوع البارزة التي أدت إلى استلهام فكرة القبوات القوطية المصلبة، وإنما تجاوزتها في فرنسا إلى العناصر الزخرفية أيضَا، ففي كنيسة نوتردام دي بوردي كليرمو التي تعتبر أقدم كنائس مقاطعة أوفرن بفرنسا، استخدمت الكوابيل قرطبية الطابع، ومن العجيب أن تتماثل كوابيل نوتردام دى بورتى كليرمو مع كوابيل جامع قرطبة، في حين تختلف عن كوابيل الكنائس المستعربة مثل كنيسة سانتياجو دي بنيالبا، وسان ميجل دي ثيلانوفا، وسان ميان دي لاكوجويا، مما يدل دلالة واضحة على أن الفنان الفرنسي أخذ مباشرة من جامع قرطبة.

كما يزدان الإفريز بين الكوابيل في كليرمو بزخارف من قبيبات مقصصة اشبه شئ بزهور ذات ثماني ورقات تماثل نظائرها في قبة المحراب بجامع قرطبة.

وقد انتشر في فرنسا عنصر هام من عناصر العمارة الخلافية بقرطبة هو العقد ثلاثي الفصوص، أكثر من انتشاره في قرطبة نفسها، وكان مركز انتشاره في بلدة بوي وتتجلي هذه الظاهرة في واجهة كاتدرائية نوتردام دي بوي بل إننا نشهد في هذه الواجهة العقود متعددة الفصوص أو المقصوصة والعقود المنفوخة التي تتناوب في سنجاتها الألوان الأمر الذي يدل على وجود تأثير مباشر من جامع قرطبة.

والواقع ان ظهور هذه العقود القرطبية مع تناوب الألوان وظاهرة تقليد الكتابة الكوفية في طرة الباب لم يكن وليد الصدفة، ولكنه دليل حاسم على أن الفنان الفرنسي استهدف تقليد نظائرها في جامع قرطبة.

ولا يقف الأثر الإسلامي القرطبي على هذه الواجهة، وإنما نراه ممثلًا في برج الكتدرائية الذي يزدان بفتحات عقودها متعددة الفصوص على غرار عقود صومعة جامع قرطبة، ونشاهد هذه العقود المفصصة أيضًا في دير كلوني ببورجوتي كما نراها في برج كنيسة لا شاريتية سيرلوار، وتشبه العقود في هذين الأثرين عقود المجاز بكنيسة سانتاماريا لابلانكا بطليطلة وهو إحدى روائع الفن المدجن.

والعقود التي يتناوب فيها اللونان الأبيض والأسود لا يقتصر وجودها على عقود الفناء والواجهة بكاتدرائية نوتردام دي بوي، بل نشاهدها ايضًا في عقود المبني المثمن المجاور للكاتدرائية وفي مقصورة سان ميشيل داجويل، وفي واجهة كنيسة موناسلييه وريوتار وبولتياك سيرلوار وفي كاتدرائية فالنس.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

دكتور السيد عبد العزيز سالم، قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس دراسة تاريخية عمرانية أثرية في العصر الإسلامي الجزء الثاني.

 

 

 

 

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *