إلا أول لقاء بمطل سان نيكولاس فإنه لا يبدأ أبدا بإلقاء التحية، لعلها دهشة النظرة الأولى!
إلا بمطل سان نيكولاس لن تتساءل أبدا عن أي النظريات هي الأصدق لدراسة المكان أهي المادية أم المثالية!
إلا بمطل سان نيكولاس لن تهتم أبدا بتأمل إذا ما كانت المادة (الوجود/ الطبيعة) تتقدم الفكر ( الوعي) أم العكس!
ستضرب كل النظريات المتعلقة بالتأمل العقلي للظاهرة المكانية عرض الحائط. فالفضاء غني عن كل تلك التعقيدات. لا مكان هناك إلا للنشوة و ممارسة الجمال وتبني البساطة المريحة و ارتشاف خمر الهذيان ومعانقة سَكرة اللاعقل!
يقع مطل سان نيكولاس بقمة البيازين بغرناطة. مشهده البانورامي المنفتح على الحمراء، وارتفاعه الشاهق مقارنة بمستوى المدينة المنحدر، يجعلون منه واحدا من الأماكن الأكثر إقبالا بغرناطة. يتمتع المكان خلال النهار بجو بوهيمي. فهو فضاء لختم مواعيد عُقدت من قبل، ومتجر هواء طلق صالح لعرض تجارات صغيرة متنقلة أغلبها لأعمال فنية يدوية.
يعرف المطل زيارات منظمة مكثفة لمجموعات من السياح الأجانب وآخرون يأتون بشكل انفرادي عشوائي. هذا فضلا عن زيارات أهالي وساكنة المنطقة. يستطيع زائر حي البيازين الإستمتاع بتأملات بانورامية للمدينة من بعض مقاهي ومطاعم الحي. ولكن يظل مشهد مطل سان نيكولاس البانورامي أهمها، أبهاها وأشملها على الإطلاق. يتسم المكان بجاذبية أكبر خلال المساء. حيث تُضفي فرق فلامنكو موسيقية رونقا خاصا على المطل في آخر ساعات النهار. بعضها لهواة يبحثون عن المتعة وأخرى لمجموعات اتخدت من عزفها الفني موردا للعيش وللحصول على المال. رنين قيثارة، غناء، رقص، وأناس يصحبون معهم مشروباتهم لعين المكان، كلها عوامل تجعل من المطل فضاءا ساحرا، فريدا ومختلفا.
ومن شهادة بيل كلينتون في المطل أن قال: هنا يمكن للمرء تأمل “أجمل غروب للشمس بالعالم”. حيث تتحرش حُمرة الغروب بحُمرة الحمراء. تفتح أشعة الشمس الراقدة على جبال لا سييرا La Sierra للقلعة حزام الخصر. ثم يبدأ وجه أندلس المساء بالتشكل. منظر يغسل بالسحر أتعاب الدهر. طبيعة تشرب طرب الغروب ورنين العزف. ونغمات تشق بعذوبتها كل فِكر. برهة من نشوة تعادل طول الدهر. يستل الجمال خنجرا. ينتحر. فلا جمال فوق جمال الحمراء المدوي. تمر بقايا أشعة الشمس على الخدين، تحرق بعذوبة الشامات والشم .تستفزك. تَشتِمُك. تؤلمك. فتبتسم لها بذل بعد أن تتفقد القلب!
تضم ساحة مطل سان نيكولاس مسجد غرناطة الكبير الذي تم تشييده سنة 2003 (و يعتبر أول مسجد تم بناؤه منذ سقوط غرناطة سنة 1492) وكنيسة سان نيكولاس ( تم تشيدها سنة 1525). كان المكان قديما عبارة عن ساحة واسعة ضمت مسجدا قديما اختفى حاليا ولم يبقي منه سوى صهريج ماء صغير. الفضاء عبارة عن تجمعات مكانية متباينة ترتبط فيما بينها بعلاقات العِلّية. لكل صرح وظرف عِلة. تجعل منه سببا في إحداث آخر. الحمراء عِلة وجود المطل. والمطل علة وجود تلك المباني من كنيسة ومسجد وعلة جمال المكان . وجمال المكان علة لشهرته. وشهرته علة لتدفق السياح إليه من كل صوب ولحركيته. كل الظواهر تتناسق مع بعضها وتتفاعل وإن كانت مستقلة بذاتها مما يكسب المكان سمة خاصة.
يستطيع زائر المطل تأمل قرون من التاريخ الإسلامي من علو مكان مميز. تُنَبِّه الزمن إلى ضرورة العودة للوراء والتوقف هناك. يأبى. يسرقك. تمر عليك الساعات بينما تحاول تصور كيف مرت حياة بني نصر بين تلك الحيطان. تستمتع بتجسيد البعد الواقعي للمكان بالتركيز على نماذج لشخصيات تاريخية مرجعية مما يمنحك صورة إجمالية عن الموروث الثقافي المحلي بشكل عام. تدرك أنك أمام حالة تاريخية معقدة بدأت مع محمد الأول ومرت بالملوك الكاتوليك والإمبراطور كارلوس الخامس ولا زالت مستمرة بشكل أو بآخر إلى اليوم. تستحضر تصورا للشخصيات وللأحداث بشكل يساعدك على تجاوز التصوير التقريري والمضي إلى عوالم من الوعي الذهني والإدراكي الذي لا يخلو بدوره من الجمال. وبدل تغريب المكان في حيطان صماء، تقوم بأنسنة الواقع وأسطرته في قالب تاريخي. تُصنِّف الظاهرة المكانية بعيدا عن تأملات الجيوفيزكس البكماء فلا متعة تفوق لذة استحضار عاملي الإنسان و التاريخ و الزمن .
للوصول إلى مطل سان نيكولاس ، يتم اجتياز أزقة البيازين الضيقة الشديدة الإرتفاع والعنكبوتية التشييد. يمكن للمرء استقالة حافلة من حافلات نقل غرناطة العمومي أو سيارة أجرة تكلف حوالي 5 أو 6 أورو من قلب المدينة . وإن كان التوجه على الأقدام هو الأفضل حيث يستغرق الإتجاه سيرا نحو المطل حوالي 15 أو 20 دقيقة يمكن للمرء خلالها التنعم بجولة في أحضان أزقة البيازين التاريخية. ترتقي أعالي الطريق لتعود في كل مرة إلى المنزلق. ترسم خطوات مقيدة على طريق مطلق. يتذلل البصر على شرفات المنازل والورد. وإن كان تذلل العين ليس من الخُلُقِ. فلا حيلة غير ذُلٍ تُخمد من خلاله ماشب في الفؤاد من وجدٍ ومن حُرُقِ. يطوف الصمت بين المباني القصيرة. تُحرك قهقهات الساكنة ستارة النافذة. ترحل بعيدا بالسمع. لتكون كالحيطان أصمّ. تجولتُ هناك بدوري. طُفتُ بالأزقة. ولا زلتُ إلى اليوم لا أدري، أراقبتُ يومها الجير الذي عانق الحيطان ؟ أم لملمتُ الجير الذي سقط من شدة الشوق مني؟!
سميرة فخرالدين