
الضَّبَّةُ*، التي كانت تزين البوابة الرئيسية لمسجد ابن عديِّس. موجودتان اليوم بأحد بوابات معبد بإشبيلية.
لم تترك لنا مساجد إشبيلية الكثير من المعلومات، اللهم بعض آثار الصحون والمآذن التي تم إعادة استخدام موادها في المباني المسيحية في وقت لاحق. فبعد سقوط إشبيلية 1248م، تم “التبرع” بمعظم المساجد إلى دون ريموندو (Don Remondo)، المرشد الروحي ومستشار الملك فرناندو الثالث، الذي تخير الأفضل منها من ناحية الموقع والبناء لإقامة الرعايا (Parroquias)، فكان مسجد ابن عديِّس من بين هذه الجوامع المختارة، الذي تميز بكونه أقدم مؤسسة إسلامية في إشبيلية، فتحول لاحقاً إلى الكنيسة المجمعية للمخلص الإلهي (Iglesia y colegial del Divino Salvador) والمشهورة ليومنا هذا باسم “كنيسة السلفادور”.
منذ 711م ، أي منذ الفتح الإسلامي، لم تعرف المدينة تشييد أي مبنى مهم يذكر، فقد اكتفت بإعادة استخدام معابد وقصور الإرث القوطي والروماني، فعلى الرغم من كون إشبيلية أول عاصمة إسلامية في الأندلس، إلا أنه سرعان ما تم نقلها إلى قرطبة، بالإضافة إلى أن إشبيلية عرفت تمرداً منذ اللحظة الأولى من فتحها.
كل شيء تغيّر بعد قرن من الزمن، عندما اكتسبت أهمية من قبل أمير الدولة الأموية عبد الرحمن الأوسط، وقد حاول الأمويون منذ دخولهم، إعادة تسمية “هيسباليس” (Hispalis) إلى حمص، لكن من دون جدوى، حيث استمر سكانها يطلقون عليها اسمها القديم، الذي انحرف مع الوقت إلى “إشبيلية”.
تأسس المسجد في عام 214 هـ (829-830م)، فوق ما يعتقد أنه كان أساس المنتدى الروماني (Forum) التابع لمدينة هيسباليس الرومانية، وكلّف عبد الرحمن الأوسط القاضي محمد بن عمر بن عديِّس بالإشراف على عملية البناء. ويتداول الباحثون الإسبان رواية قديمة تقول أن عبد الرحمان الأوسط طلب تفسير رؤية ظهر له فيها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ميتاً بجنب حائط قبلة هذا المسجد، ففسروها له على أن الإسلام سيزول من تلك البقاع.
حسب المصادر العربية يظهر اسم القاضي “ابن عديِّس” بينما المصادر الإسبانية فجلها تشير للمسجد باسم “ابن الدبَّاس/Ibn Adabbas”، وهو تحريف ونطق مغلوط على ما يبدو، لكنه المتداول في كل الدراسات التاريخية الإسبانية والأكثر شيوعاً.
منذ ذلك الحين، عرف هذا المسجد العديد من الأحداث، أبرزها الواقعة المأساوية التي حدثت يوم الأربعاء في الرابع من محرم سنة 220 هـ عندما تم حرقه من قبل النورمان أو الفايكينغ الذين غزو مدينة اشبيلية، فقاموا برمي السهام الحارقة إلى سطح المسجد وجمعوا الحطب في واحدة من البلاطات* لتشتعل فيها النيران وتصل إلى السقف. تقول الأسطورة أن المسجد نجى من التخريب الكامل بعد أن خرج من المحراب ملاك زرع الرعب في قلوب الفايكينج، جعلهم يبتعدون عن المسجد.
وحسب الرواية الشعبية المسيحية فإن المؤذن وهو في الصومعة كان يفقد صوته بل وحياته أحياناً، نظراً لاحتواء المئذنة على حجر جلب من ضريح القديس إيسيدور الإشبيلي.
عرف مسجد ابن عديِّس عدة ترميمات، من بينها إصلاحات عام 472 هـ (1079-1080)، التي أمر بها المعتمد بن عباد بعدما دمر الزلزال أعلى الصومعة، وبعد ثمان سنوات من هذا الترميم، أي سنة 479 هـ، أُعْلِنَ من منبره الجديد خبر انتصار جيوش المرابطين والأندلسيين في موقعة الزلاقة الشهيرة، بعد وصول حمامة زاجلة أرسلها المعتمد إلى ابنه الرشيد يُنبِؤُه بالنَّصر.
تحسينات أخرى جرت عام 592هـ (1195-1196م)، لتجديد العوارض الخشبية التي كانت تهدد بانهيار المسجد، في فترة كانت إشبيلية تتمتع بمسجد جديد، كبير وفخم، وهو الجامع الكبير، الذي أمر بتأسيسه الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بالقصبة، لما ضاق مسجد ابن عديس على المصلين الإشبيليين، حيث كانوا يصلون في رحابه وأقبيته، وفي حوانيت الأسواق المتصلة به، فيبعد عنهم التكبير بالفريضة. فانتهى بذلك دور مسجد ابن عديِّس كمسجد جامع عندما ألقيت أول خطبة جمعة في الجامع الكبير الجديد سنة 1182م.

هذه الأقواس تشير إلى أن مستوى سطح الأرض في الباحة في الفترة الموحدية كان نحو ثلاثة أمتار أسفل ما هو عليه اليوم.
وفي سنة 591 هـ./1195م، استقبل أهل إشبيلية جيش أبو يوسف يعقوب بن عبدالمؤمن القادم منتصراً من معركة الأرك، برفعهم الراية البيضاء والخضراء فوق صومعة* الجامع الجديد، قطعة القماش التي ستلهم في قرون لاحقة بلاس إنفانتي لجعلها الراية الحالية لمنطقة الأندلس ذاتية الحكم، وقد شارك مسجد ابن عديِّس في التكبير والتهليل بعد هزيمة قوات ملك قشتالة ألفونسو الثامن في معركة الأرك.
وبعد معركة العقاب، التي قصمت ظهر الدولة الموحدية، انشغل المغاربة في حروب بينهم، وتركت الأندلس لحالها. فشن فيرناندو الثالث حصار قاسٍ وعنيف على إشبيلية، استطاع الإشبيليون المقاومة لشهور بفضل وصول إمدادات متقطعة من أسطول بني مرين عبر الوادي الكبير، حتى استسلمت المدينة ودخلتها القوات القشتالية سنة 1248م، ويبدو أن المسجد استمر يؤدي دوره إلى غاية 1340م، سنة معركة طريف، أو بالأحرى مذبحة طريف، التي وصفها ابن الخطيب: «فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء، التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرت بذلك عيون الأعداء» وتعتبر آخر معركة يشارك فيها المغاربة بشكل رسمي ومباشر في الأندلس. وبسبب نشوة النصر، وعدم الثقة في المسلمين المقيمين في مدنه، قام ألفونسو الحادي عشر بإلغاء المعاهدات السابقة، فتم تحويل مسجد ابن عديِّس إلى “كنيسة مجمعية” محتفظاً بذلك بدوره كثاني أكبر دور للعبادة بعد الكاتدرائية، كما كان حاله أيام المسلمين.
وفي سنة م1671 تم هدم المسجد كليا لبناء الكنيسة الباروكية، ونجى من الهدم فقط، الأقواس التي تفصل بين الساحة وقاعة الصلاة، وباحة الوضوء وقاعدة البرج. واستغرقت مدة البناء 38 سنة، وتناوب عليها 7 مهندسين حتى اتمامها.
خضع المسجد لآخر ترميم واسع، انتهت أشغاله أواخر عام 2008، آهَلَهُ ليعود دور مفتوح للعبادة.
كشفت التنقيبات أن أساس المسجد متضرر أكثر مما كان متوقعاً، بسبب القبور التي حفرت في الكنيسة. وعلى مشارف كنيسة السلفادور، في بيوتات مجاورة، لا تزال قائمة أعمدة تنتمي إلى المسجد، حيث لم تُستغل الكنيسة كل مساحة المسجد، ويظهر عليها الفن المعماري الروماني.
يرجع فضل معرفة تفاصل تأسيس المسجد وتاريخ تأسيسه إلى عمود تم العثور عليه في منطقة سانسيباستيان ديل برادو، التي كانت مقراً لتنفيذ الأحكام الرهيبة لمحاكم التفتيش، ويبدو أن العمود كان يحيط بموقع محرقة إشبيلية، تم جلبها مع مواد أخرى من مسجد ابن عديِّس. خصوصية هذا العمود هو النص المنحوث عليه، حيث يعتبر أقدم نص باللغة العربية عثر عليه حتى الآن في شبه الجزيرة الايبيرية بل وفي أوروبا كلها.

رحم الله عبد الرحمن الحكم الأمير العدل المهدي الذي (أسند؟) (بناء؟) هذا المسجد على يد عمر بن عديس قاضي اشبيلية سنة 214 وكتب (هذا) عبد البر هارون
توجد العديد من النماذج تتخيل شكل المسجد آنذاك، لكن علماء الآثار يجمعون على الشكل المصور والمعروض في متحف الكنيسة اليوم، حيث أوجه التشابه بجامع قرطبة تظهر للعيان.
*البلاطة هي المسافة المحصورة بين أربعة أعمدة.
* الصومعة، هي المئذنة في المغرب الإسلامي.
* الضَّبَّةُ، تسمى اليوم بالإسبانية (Aldaba)، وهي المقرعة أو المطرقة توضع على باب البيت لتنبيه من بالداخل. وهي حسب لسان العرب: مغلاق من الخشب ذو مفتاح يُغلق به الباب.