الحسن بن الوزان الفاسي الغرناطي
الحسن بن محمد الوزان الفاسي الغرناطي المعروف بإسم ليون الإفريقي، وذلك حسبما يخبرنا في الخاتمة التي ذيل بها قاموسه العربي اللاتيني.
ولد بمدينة غرناطة بالأندلس حسبما يذكر لنا ذلك في خاتمة كتابه “وصف إفريقية” ونشأ بفاس بالمغرب، أما عن تاريخ مولده فإنه ليست لدينا معلومات قاطعة بيد أنه يستنتج من بعض الإشارات والمقارنات التي يوردها خلال حديثه، أنه ولد بين سنتي 1494 و 1496 فهو أولاً يقول لنا أنه حينما رافق حملة مولاي محمد سلطان مراكش ضد البرتغاليين في أصيلة كان ذلك سنة 1508م وكان عمره عندئذ أربعة عشر عامًا، وثانيًا أنه حينما سار مع خاله في سنة 1513م في رحلة إلى تمبكتو، كان في السادسة عشرة أو في السابعة عشرة من عمره، إذن فهو قد ولد في غرناطة آخر حواضر الإسلام بالأندلس بعد سقوطها في أيدي الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا في سنة 1492 بنحو ثلاثة أعوام أو أربعة.
وكذلك لسنا نعرف بالتحقيق تاريخ انتقال أسرته من الأندلس إلى المغرب، بيد أنه يستدل من إشارات كثيرة في حديث الحسن عن مملكة فاس أنه نشأ بها طفلًا، إذن فنستطيع أن نقول إن الأسرة غادرت غرناطة حوالى سنة 1498م بعد مولد الحسن بنحو عامين أو ثلاثة، وذلك حينما ظهرت نيات السياسة القشتالية واضحة في نقض العهود المقطوعة للمسلمين، وبدأت مساعى الكنيسة في تنصير المسلمين، فأخذت الكثير من الأسر المسلمة في مغادرة الوطن، وغادرت أسرة الحسن غرناطة فيمن غادرها من المسلمين وعبرت البحر إلى المغرب واستقرت بمدينة فاس، وكانت فاس حاضرة المغرب يومئذ ودرس الحسن فى جامعتها العريقة جامع القرويين، وهو يصف لنا هذا الجامع الشهير وضخامته وروعته وأروقته وأبوابه وقناديله وما يلقى فيه من دروس تبدأ فى الشتاء من الصباح الباكر وفى الصيف عقب غروب الشمس، وفى حلقاته تدرس الشريعة والفلسفة ويمنح الأساتذة أجورًا سخية، ودرس الحسن النحو والعروض والأدب والشريعة والتاريخ والفلسفة والمنطق، وقد ذكر في بعض المناسبات انه كان من بين كتبه الدراسية كتاب “عقائد النسفي” ويبدو من إشارات كثيرة أنه قرأ مقدمة ابن خلدون وبعض كتب الغزالى وكتاب ابن عبد الملك المراكشي “الذيل والتكملة” كما يبدو أنه قرأ عن التصوف ويشير في ذلك بالأخص إلى السهروردي وابن فارض بإعتبارهما من أقطاب هذا الميدان.
والظاهر أيضًا مما يذكره لنا الحسن عن حياته في تلك الفترة أنه كان يعيش مع أسرته فى سعة ورغد، وقد كانت أسرته تقضى مواسم الصيف فى قصر سابق مهجور يقع على قيد نحو ستة أميال من فاس، وكان أبوه يمتلك أو يستأجر بعض الأراضي المجاورة لهذا القصر وكان الحسن يعيش سعيدًا فى تلك العزلة المشجعة على الدراسة.
ويقص علينا الحسن كثيرًا من مراحل حياته خلال أحاديثه عن رحلاته وأوصافه لمختلف البلاد التي شاهدها فهو قد اشتغل في حداثته على مدى عامين كمعظم طلاب هذا العصر بالتوثيق فى أحدى مارستانات فاس بأجر قدره ثلاثة دنانير فى الشهر، وبدأ الحسن رحلاته وتجواله بأنحاء المغرب وثغوره في وقت مبكر، ولم تكن جولاته رحلات عابرة ولكنها كانت في معظمها تنطوى على القيام بمهام تعتبر خطيرة بالنسبة لحداثة سنه، وشهد في نفس الوقت كثيرًا من الأحداث الهامة التي وقعت في المغرب والتي يذكرها لنا تباعًا خلال أحاديثه وكانت هذه الفترة بالذات من أهم الفترات فى تاريخ المغرب وهي الفترة التي اشتد فيها اعتداء البرتغاليين على الشواطئ والثغور المغربية ونهض المغرب فيها ليدفع عدوان المغيرين بكل ما وسع من قوة.
يقول الحسن إنه لما سقطت آسفي فى أيدى البرتغاليين فى سنة 1508م كان في الثانية عشرة من عمره، وأن سلطان فاس أوفده بالرغم من حداثة سنه مع الشريف محمد للاتصال بقائد آسفى عند هجوم البرتغاليين عليها، وإقناعه بالوقوف إلى جانب مليكه، وليتصل كذلك بحاكم السوس لنفس الغرض، وفي أواخر هذا العام كان الحسن في ركب مولاى محمد الوطاسي سلطان فاس وفي خدمته عندما سار بحملته لإنقاذ ثغر أصيلا الذي استولى عليه البرتغاليون، وقد كاد المغاربة ان يستعيدوا الثغر لولا أن تداركته نجدة قوية بعث بها ملك قشتالة إلى البرتغاليين، وفى العام التالي أي سنة 1509م زار الحسن مدينة الشلة الأثرية وتجول بين أطلالها، وقرأ شواهد قبور ثلاثين من الأمراء والأشراف الذين دفنوا بها ومعظمهم من أمراء بني مرين، ونقل ما عليها من النقوش وجمعها فيما بعد في كتاب خاص.
وفي نفس العام عهد إليه السلطان بالسير مع أحد قواده لمحاولة تحصيل الجزية من يهود نفزة بمنطقة تادلا، وفي سنة 1512م سار الحسن في ركب مولاي محمد مرة أخرى، وكان مولاي محمد يقود حملة نحو منطقة تادلا من أراضى دكالة وكان يرمي بحملته إلى تحرير أهل دكالة من نير العرب الذين كانوا يعيثون فسادًا في هذه المنطقة ويعتدون على السابلة والسكان الآمنين، وبعد بضعة أيام سار السلطان في جيشه إلى بلدة المعدن من أرض دكالة وأمر بعودة العلماء المرافقين له إلى فاس، وبعث الحسن إلى مراكش في مهمة سياسية لم يفصح لنا الحسن عن حقيقتها.
رحلات الحسن بن الوزان
ومن ذلك الحين يغدو الحسن شخصية بارزة في مجتمع فاس، ونراه يتنقل بين أرجاء المغرب وإفريقية وأحيانًا في بعض المهام السلطانية، وأحيانًا في رحلات لا يحدثنا عن أغراضها، فنراه مثلًا حسبما ذكر في الكتاب الرابع “وصف إفريقية” في مدينة بجاية في سنة 1514م في طريقه إلى القسطنطينية وتونس ثم يذكر إنه عاد من تونس إلى فاس ليرى أصدقاءه، ثم قام الحسن بأعظم رحلاته الإفريقية وذلك عندما صحب خاله الذى ندبه سلطان فاس سفيرًا عنه إلى سلطان تمبكتو، وكان يومئذ في السابعة عشر من عمره وقصدا إلي تمبكتو عن طريق درعة، وبعثه خاله نيابة عنه ومعه هدية إلى حاكم درعة وقدم إليه الحسن شعرًا من نظمه.
ويحدثنا الحسن عن خاله بإحترام وإعجاب ويقول إنه كان شاعرًا جزلًا وخطيبًا مفوهًا، وكانت رحلة الحسن هذه من أعظم رحلاته وأوسعها آفاقًا وأغزرها مادة، وقد تمت في صحبة القوافل وقدر للحسن أن يشهد خلالها سائر ممالك إفريقية الوسطى، وحوض نهر النيجر وأن يدرس جغرافيتها وأحوالها دراسة حسنة، وهو يصفها لنا وصفًا قيمًا دقيقًا في الكتاب السابع من مؤلفه “وصف إفريقية” وكانت تمبكتو يومئذ في أزهر عصورها وكانت قاعدة لمملكة كبيرة قوية تحكمها أسرة “سونجاهى” وقد أتيح للحسن أن يخترق في تلك الرحلة سائر ممالك السودان الواقعة فى تلك المنطقة، وعددها خمسة عشرة مملكة متجهًا إلى تمبكتو نحو الشرق ثم بعد ذلك نحو الجنوب، وهذه الممالك هي حسبما يذكرها لنا: ولاتة وغنيا ومالى وتمبكتو وجوجو وجوير وأجادز وكانو وزجيزج وكافسينا وزمفرا ووتجرا وبرنو وجاوجو ونوبي.
ووصف الحسن وصف موجز لمواقع هذه الممالك ومعالمها الجغرافية وأحوالها الإجتماعية بدقة واضحة ولخص أحوال حكامها وشعوبها فى تلك العبارة : “إن حكام هذه الممالك وسكانها على قدر كبير من الثراء والنشاط وهم يشغفون بإقامة العدالة ولو أن منهم طوائف تحيا حياة همجية”
وقد اشترك الحسن في بعض الحملات التي جهّزت لرد البرتغاليين عن الثغور المغربية، وهو يقص علينا تلك الأحداث فيقول انه فى سنة 1514م ، كان فى أرض حاحة الواقعة غربي مراكش على مقربة من المحيط ورأى بها مدينة تدنست وقد غدت قفرًا خرابًا لفرار أهلها منها خوفًا من سقوطها في أيدي البرتغاليين، وانه فى العام التالى كان يصحب مولاي محمد سلطان فاس في حملته التي قادها ضد العرب في أرض رجراجة الواقعة شمال أرض حاحة لردعهم، وأن السلطان طاردهم بشدة حتي التجأوا إلى الجبال، وفي هذا العام أيضًا كان الحسن حسبما يقص علينا في ثغر المعمورة وكان البرتغاليون يومئذ يهاجمونه، ولكنهم هزموا شر هزيمة على يد مولاي ناصر الوطاسي، وقد شهد الحسن هذا النصر الباهر للمغاربة وهذه الهزيمة الساحقة للمعتدين.
وفي أواخر عام 1515م أوائل عام 1516م رحل الحسن إلى القسطنطينية ويلخص لنا الحسن برنامج رحلاته المشرقية في خاتمه الكتاب الثامن من مؤلفه وهو الذي يخصصه لوصف مصر، وملخص ذلك أنه حينما زار مصر وبعد أن مكث وقتًا فى القاهرة سار بطريق النيل من القاهرة إلى أسوان، ثم عاد بطريق النيل أيضًا من أسوان إلى قنا، ومن هناك اخترق الصحراء الشرقية حتى البحر الأحمر، ثم عبر هذا البحر إلى ينبع ثم إلى جدة واخترق بلاد الحجاز بيد أنه ليس لدينا ما يدل على أنه أدى فريضة الحج.
وهنا يذكر الحسن الوزان بعض المعلومات عن رحلته الأسيوية فيقول : “بيد أنه إذا شاء الله أن يمد في أجلي، فإني أعتزم أن أصف كل مناطق آسيا التي تجولت فيها، وهي بلاد العرب واليمن وسيناء والجزء الأسيوي من مصر “يريد فلسطين” وأرمينية وجزء من بلاد التتر “يريد بها شمالي فارس” وهى بلاد رأيتها وتجولت فيها أيام شبابي وكذلك سوف أصف رحلتى الأخيرة من فاس إلى قسطنطينية ومن قسطنطينية إلى مصر ثم من مصر إلى ايطاليا وهي رحلة رأيت فيها جزائر عديدة ومختلفة”
وكان الحسن من خلال بعض رحلاته التي يرافق فيها التجار يقوم لهم بأعمال التوثيق والمحاسبة وذلك حسبما ذكر فى رحلاته في جبال أطلس، وأحيانًا كان يشتغل بالتجارة حسب ما ذكره فى رحلته الأولى لمصر حيث قام في ساحل ليبيا بشراء بعض الأغنام والزبد ولما أراد شحنها بطريق البحر إلى مصر اضطر إلى الفرار خشية من مفاجأة القراصنة الفرنج، هذا بالإضافة إلى سفره في مهام السلطانية التي كان يكلف بها من آن لآخر من قبل عاهل فاس.
ويميل بعض الباحثين إلى الإعتقاد بأنه كان في رحلاته إلى القسطنطينية يحاول بالنيابة عن سلطانه أن يحمل سلطان الترك على بذل الجهود لمعاونة المغرب في صراعه ضد اسبانيا والبرتغال.
غير أن هنالك ما يدل أيضًأ على أن الحسن قد قام بمعظم رحلاته إشباعًا لشغفه بالكشف والدراسة وأسطع دليل على ذلك ما تركه لنا عنها، من أوصاف مستفيضة دقيقة لا يمكن إلا أن تكون مستمدة من مذكرات وتقييدات مدونة لا يمليها إلا مثل هذا الشغف بالدرس والتدوين.
الأسر والعبودية
عندما رحل الحسن من مصر ركب البحر من الإسكندرية إلى تونس ورست السفينة فى مياه خليج قابس عند شاطئ جزيرة جربة أو على مقربة منها، وهاجم بعض القراصنة النصارى وهم على الأغلب من البندقية السفينة التي يركبها الحسن واخذ اسيرًا ضمن من أخذوا ويلخص لنا الحسن هذا الحادث في حياته في الكتاب السادس من مؤلفه عند وصف جزيرة جربة في قوله: “وصفجزيرة جربة حيث أسر يوحنا “ليون” الحسن مؤلف هذا التاريخ على يد القراصنة الإيطاليين وحمل من هناك إلى رومة”وكان يومئذ في الرابعة والعشرين من عمره تقريبًا
وأدرك القراصنة مما رأوه من حالة الحسن ومما يحمله معه من الكتب والأوراق أنهم يحرزون أسيرًا غير عادي، يمتاز بصفته العلمية فحملوه إلى روما وقدموه هدية إلى البابا ليون العاشر أو الكاردينال السابق جيوفاني دى مديتشي، وكان ذلك فى سنة 1520م تقريبًا، وكانت أعداد كبيرة من المنكوبين المسلمين الأسرى يعملون في قصور الملوك النصارى وبيوت الكبراء الميسورين، وكان بعضهم ينتظم في سلك الحرس الملكى، كان هذا المصير الذي ينتظر الحسن ولولا أن آنس البابا في عبده الجديد طرازًا آخر، وأدرك قيمته العلمية الخاصة، فبادر بعتقه وشمله بعطفه وقرر له معاشًا سخيًا حتى لا يفكر فى الهرب.
وانتهى هذا العطف إلى النتيجة الطبيعية وهي إقناع البابا لخادمه بأن يعتنق النصرانية ومن ثم فقد نصّر الحسن وحضر البابا حفلة تنصره وأطلق عليه اسم جوفاني ليوني أو يوحنا الأسد.
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كان اعتناق الحسن للنصرانية أمرًا تمليه بواعث المصلحة قبل كل شئ، أم أنه قد أضحى بهذه الردة نصرانيًا مخلصًا؟ إن لدينا ما يعزز الرأي الأول في تصرف الحسن وعوده إلى الإسلام فيما بعد صحيح ان الحسن يبدى في كثير مما يكتبه في مؤلفه عن الإسلام والرسول صلّ الله عليه وسلم تحاملًا واضحًا، ولكنه كان تحت كنف المجتمع النصرانى المتعصب في روما.
وهكذا غدا الحسن بن الوزان جوفاني ليوني أو ليون الإفريقي وهو الإسم الذي عرف به فيما بعد منذ أن ظهر مؤلفه الشهير فى وصف إفريقية وتعلم الحسن الإيطالية واللاتينية والقشتالية “الإسبانية” وقام بتدريس اللغة العربية لعدّة من العلماء ورجال الدين النصارى.
وفي كتابه وصف إفريقية يصف لنا المغرب وتحدث بإستفاضة عن مدينة مراكش ووصف جامعها جامع الكتبية وصومعته، ويذكر أنه كان في الماضي تحت شرفاته نحو مائة حانوت لبيع الكتب ولكنه حين زارها لم يكن بها سوى حانوت واحد لييع الكتب.
ويصف مدينة أغمات ويقول انه حينما شاهدها كانت خرابًا وليس بها سوى الذئاب والثعالب وليس بها إلا زاوية عابد وأتباعه الذين يبلغون المائة ثم يصف تينملل بلد المهدي بن تومرت ويشيد بجمال جامعها “جامع المهدي”
وتحدث عن مملكة فاس وولاياتها ومدنها ولا سيما حاضرتها مدينة فاس التاريخية العظيمة، ويصف ملابس أهل فاس وطعامهم وشرابهم وعوائدهم في الزواج والحفلات والمآدب والجنائز، ثم يحدثنا عن مساجدها ويقول انها تحتوى على نحو سبعمائة مسجد وخصص جزء خاص للحديث بإستفاضة عن جامع القرويين، ووصف حلقاته الدراسية، ثم تحدث عن مدارس فاس وحماماتها وفنادقها وأسواقها وحوانيتها وحدائقها، ووصف الجزء الشرقي من فاس وهو القسم الأرستقراطي الذي يصم القصور والمساجد والمدارس الفخمة وتقل فيه الحوانيت، وتحدث كذلك عن شعراء فاس وكيف انه فى المولد النبوى من كل عام ينظم الشعراء القصائد فى مديح النبي، وفي أيام بنى مرين كان يدعي العلماء بهذه المناسبة إلى القصر ويكرمونهم ثم يطلب إلى الشعراء إنشاد قصائدهم في مديح النبي، ويمنح أجودهم نظمًا صلة قدرها مائتى دينار وجوادًا فخمًا وجارية وخلعة ملوكية.
ووصف الحسن مملكة تلمسان وممالك بجاية وتونس وطرابلس التي وصفها بإنها مدينة أحيطت بأسوار عالية جميلة، وهي تقع على سهل رملي ينتج محاصيل وفيرة من التمر ومنازل هذه المدينة وجيهة جدًا بالنسبة لمنازل تونس، وتروج بها كل تجارة وحرفة ويكثر بها عمال النسيج، وليست لدى أهلها آبار أو نوافير ولكن ماءهم يحفظ في خزانات، والقمج في هذه المدينة مرتفع الثمن جدًا وذلك لأن سائر حقول طرابلس هي رملية وقاحلة.
ويحدثنا ليون عن بعض قرى طرابلس مثل قرية سارمان التي تكثر بها التمور، وقرية بني يربوع القريبة من البحر والتي تنتج كميات كبيرة من التمور وقرية رانزور التي تنتج الكثير من التمر والخوخ والرمان، وقرية همروزو التي تكثر فيها غابات النخيل وحدائق الفاكهة.
ثم يحدثنا عن مقاطعة مصراتة وهي تقع على البحر على بعد مائة ميل من طرابلس وبها تسع قرى في الوادي وعلى الجبل، وسكانها أغنياء ولا يدفعون ضريبة ويتاجرون مع البنادقة الذين يأتون إلى هذه المقاطعة حاملين فوق سفنهم البضائع البندقية وهناك يستبدلونها بالعبيد والمسك.
ويتحدث ليون عن صحراء برقة وكيف تمتد شرقًا حتى مشارف الإسكندرية، وهي بسيط مقفر خشن لا قمح فيه ولا ماء تقريبًا،وبعض طوائف الأعراب يعيشون بها حياة بؤس ويأتي إليهم القمح من صقلية.
ويصف ليون منطقة سجلماسة ودرعة والزاب والممالك السوداء الخمسة عشر الواقعة في منطقة النيجر وفي مقدمتها تمبكتو وغانة ومالي.
وخصص ليون جزء لوصف مصر وتحدث عن إقليم مصر ومدنها ونيلها، ويفيض في وصف القاهرة وشوارعها وأبوابها ومتاجرها وعوائد أهلها وأطعمتهم ويصف أهل القاهرة بقوله: ” إنهم شعب ذو ميول مرحة باسمة تبشر بالكثير ولكن تؤدى إلى القليل، وهم يزاولون التجارة والحرف الآلية ولكنهم لا يغادرون أوطانهم، ومنهم كثير من طلاب الفقه ولكن قليل جدًا من أهل الفنون الحرة والعلوم، وبالرغم من أن معاهدهم تغص دائمًا بالطلبة فإن القليل منهم يصل إلى الكمال”
أما عن نساء القاهرة فيقول: “أما النساء فيخرجن في ثياب فاخرة ويزين جباههن بالقلائد وأعناقهن بعقود الؤلؤ، ويضعن على رؤوسهن قلنسوة وافرة الجمال والأناقة ويبلغ ارتفاعها نحو شبر، ويرتدين أردية من الصوف بأكمام مزركشة مطرزة وعليها أغطية من أفخر القماش الهندي ويلبسن على وجوههن خمارًا أسود، ويلبسن نعالاً جميلة وأخفافًا تركية، وهؤلاء النسوة وافرات الطموح والكبرياء حتى أنهن جميعًا يحتقرن أن يغزلن أو يقمن بأعمال المطبخ، ومن ثم فإن أزواجهن يرغمون على شراء الأطعمة الجاهزة من المطابخ، وقليل من الأسر الكبيرة تعنى بإعداد الطعام فى منازلها.
ويتمتع نساء القاهرة بحريات واسعة وبينما يخرج الزوج إلى المقهى أو لشراء الطعام، إذا بالزوجة ترتدى أفخر ثيابها وتتعطر بأذكى العطور ثم تتجول في المدينة لتروح عن نفسها وتتحدث مع صاحباتها وهن يمتطين الحمير أكثر من الخيل، تسير بهن في راحة وهوادة وتغطى هذه الحمير بالبراذع الفخمة ويجرها صبى ويتقدمها سائس”
واختتم ليون مؤلفه الضخم بالحديث عن الحيوانات والمعادن التي توجد فى إفريقيا، والحقيقة أن ليون كان يتحرى الدقة ويتميز بقوة الملاحظة، ويبدى بالأخص في كل ما يكتبه عن المغرب وعن مدنه وقبائله وعاداته معرفة شاملة، لا تستند فقط إلى المشاهدة الشخصية ولكن تستند كذلك إلى القراءة والدراسة، فقد كان يرجع في كثير مما يكتب إلى طائفة من أكابر المؤلفين القدامي في التاريخ والجغرافيا، وهذه العناية التي التزمها ليون في وضع مؤلفه وتنسيقه على ضوء كتاباته مشاهداته الشخصية هي التي جعلت من مصنفه وثيقة نفيسة ومرجعاً من أهم المراجع عن وصف إفريقيا وأحوالها في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، بل أن كتاب “وصف إفريقية” ما يزال إلى يومنا هذا أوثق مصدر عن الكثير من المظاهر والتقاليد والعادات الخاصة ببعض الأجناس والقبائل الإفريقية والتي لم يغيرها الزمن حتى عصرنا.
ووضع ليون فضلًا عن مصنفه الجغرافي والتاريخي هذا قاموسًا يحتوى على مجموعة من الكلمات العربية والعبرية واللاتينية، ولكنه لم ير النور حتى الآن، وتوجد نسخته الأصلية بخط ليون نفسه في مكتبة الإسكوريال الشهيرة فى مدريد، وعلى الكتاب توقيعه الذي جاء فيه: ” فرغ من نسخ هذا الكتاب العبد الفقير إلى الله مؤلفه يوحنا الأسد الغرناطي المدعو قبل الحسن بن محمد الوزان الفاسي، في أواخر ينير “يناير” عام أربعة وعشرين لتاريخ المسيحيين الموافق لعام ثلثين وتسعمائة لتاريخ المسلمين، وذلك بمدينة بلونيا “بولونيا”من بلاد اطاليا “إيطاليا” برسم المعلم الحكيم الطبيب الماهر يعقوب ابن شمعون الوفى الإسرائيلي . حفظ الله نعمته آمين”
عاش ليون أعوامًا طويلة في روما، أنجز فيها أعماله العلمية المتقدمة، ولكن حياته بعد ذلك يكتنفها الغموض، وهنالك روايتان عن خاتمته : الأولى أنه عاش بقية حياته في روما ولم يتركها، والثانية وهي رواية كاتب معاصر عاش في روما في ذلك الوقت وهو فيدماننشتات وهي أن ليون غادر روما بين سنتى 1528 و1530م لما لقى من الإنكار وعدم التقدير بعد موت البابا، ونزل بتونس وهنالك عاد إلى الإسلام مسلمًا ورعًا وكأنه لم يعتنق النصرانية قط، واستمر بها حتى توفى في سنة 1552م.
وهنالك قول بأنه عاد بعد ذلك إلى فاس حيث نشأ وترعرع وتوفى بها سنة 944 هـ 1537م، ويؤيد هذه الرواية الأخيرة عن مغادرة ليون روما وعودته إلى وطنه ما يذكره هو في خاتمة الكتاب الثامن عن نيته في هذا العود حينما يتحدث عن عزمه في الكتابة عن البلاد التي زارها خارج إفريقيا وذلك في قوله “إني لأعتزم بعون الله حينما أعود من أوربا وآسيا التي رأيتها وأضمها لوصفي لإفريقية”
ولكن ليون لم يعش طويلًا بعد عودته إلى الوطن ولم يفسح له القدر مجالًا لتحقيق أمنيته في استكمال وصف رحلاته الاخرى واقتصر مجهوده في ذلك على وضع مؤلفه العظيم وصف إفريقية.
ومن الأعمال الأدبية التي تناولت سيرة الحسن الوزان كتاب ليون الإفريقي للأديب اللبناني أمين معلوف ويمكن تحميل الرواية من هنا
د. محمد عبد الله عنان ، تراجم إسلامية شرقية وأندلسية