لوحة تُلَخِّصُ مُعاناة شعوب أمريكا اللاتينية في حقبة الإحتلال الإسباني

لوحة تُلَخِّصُ مُعاناة شعوب أمريكا اللاتينية في حقبة الإحتلال الإسباني

 

 

تتفنن الأنظمة الإستعمارية الإستبدادية في ممارسة “التثقيف” في معناه السلبي, السلطوي غير متوازن . حيث تعمل الثقافة المُستعمِرَة على اقتلاع ثقافة السكان الأصليين ومحو كل عملية إجتماعية قد يبني الفرد من خلالها هويته، ويحدد معتقداته وقيمه الفكرية. وتعمل على “تبادل” الثقافة على نحو غير متكافئ مع نوع من التبعية للأقوى. عادة ما يُرغِمُ المُستَعمِر الخصم على الخضوع لاندماج فكري قسري، ليتقبل القهر الإجتماعي و لتبني مواقف سياسية واقتصادية بعيدة عن تطلعاته. يُمارس المحتل إستعلاءا عِرقيا وعنصريا. يعتبر ثقافته الأسمى والأرقى مقارنة بثقافة الشعوب المُستَعمَرَة. كما يخلِقُ نوعا من التراتبية الإجتماعية التي تُقسمُ الشعوب المحتلة لفئات مختلفة ومتباينة على اساس الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع.

مارست إسبانيا كل أنواع السيادة و”التفوق” العرقي اتجاه مستعمراتها بأمريكا اللاتينية. مبتكرة معايير خاصة للحكم على حضارات وثقافات تلك الشعوب. فكان معيار “تقدُم” المُستَعمَر رهينا بمدى تبعيته وإخلاصه و احترامه للمُستعمِر الإسباني الذي شكَّلَ المثل الأعلى للجميع. فإما أن تطبِّق سياسة الخضوع التام للرجل الإسباني وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الخامسة أو العاشرة. تبعاُ للعِرق ولمدى الإقتراب منه والخضوع له.

تحمل اللوحة عنوانا هو : “الإحتلال الإسباني لأمة الأزتيك” . وهي عمل للرسام المكسيكي الشيوعي دييغو ريبيرا Diego Rivera (1886-1957) الذي اشتُهِر برسوماته الجدارية وبأعماله التي تعكس مواضيع اجتماعية عميقة.

عناصر اللوحة:

يندرج هذا العمل الفني ضمن تيار المدرسة الواقعية. وذلك مع إلقاء أول نظرة على عناصر اللوحة ، اذ نلاحظ هيمنة موضوع التثقيف عليها. حيث تعمل الثقافة الأوروبية على محو ثقافة السكان الأصليبن أي ثقافة الأزتيك:

1- يقف أزتيكي مُعتنقٌ للمسيحية إلى جانب الصليب. يُساعدُ الإسبان وإن ضرَّت هذه المساعدة بأبناء وطنه. فمَدُّ يَد المساعدة للعدو وعقد اتفاقيات معه ومعاهدات خيانية ضد الوطن أضحى وساما يُعلَّقُ على الصدور.

2- يحمل قس الكتاب المقدس. يرمز حضوره للطبقة الكنسية. عادة ما تُعرِّضُ سياسة الإحتلال الشعوب المُستعمَرة للقهر تحت مسميات ثورية نبيلة ووهمية. فتبحث عن مبررات سامية زائفة وخادعة تُبرر من خلالها الجرائم المُقترفة، ومن بينها التنصير و الرغبة في “نجدة” شعوب أمريكا اللاتينية وتوعيتها بضرورة التكفير عن خطاياها والفوز بالجنة في الآخرة. إذ لطالما استُخدِمَ الدين هو الآخر لخدمة السلطة بإخضاع الأمة للحاكم.

3- يخضع أفراد من المجتمع الأزتيكي لعقوبات من طرف المستعمر الإسباني. تُمارَسُ في حقهم بشكل علني ليكونوا عبرة لغيرهم. كما يتم تصفية آخرين.

4- نلاحظ حضور قس آخر باللوحة وذلك لشرعنة الجرائم التي يقترفها المستعمر الإسباني ضد أفراد المجتمع الأزتيكي من عقوبات و قتل و استغلال وتحقير. حضور الطبقة الكنسية يأتي ، مرة أخرى، لتعزيز فكرة أن الغاية من اقتراف تلك الجرائم هي غاية نبيلة وتتمثل في الرغبة في مساعدتهم على الفوز بالآخرة من خلال دعوتهم للمسيحية.

5- تتوزع قوارب إسبانية على طول الساحل، لتعكس مراقبة عسكرية مشددة ، إذ لم تكن مراقبة برية فحسب بل بحرية أيضا .

6- يعطي الأزتيكي الضرائب للمستعمر الإسباني. حيث فرض الإسبان ضرائب على السكان الأصليين من (الذهب، المنتجات الزراعية، وغيرها ..) وفي حالة عدم توفر أي منها يُجبَرُ الأزتيكي على السفر لأماكن بعيدة لجلبها.

7- يُعاقبُ جنديان إسبانيان بعض الضحايا، بينما ينتظر الآخرون دورهم . اذ يحاصرهم بعض الجنود المسلحين من الخلف لمنعهم من الفرار. – تظهر شخصية بملامح زنجية مُقيَّدة المعصمين والقدمين والعنق للدلالة على بعض الممارسات العبودية.

8- تظهر امرأة برفقة ابنها الصغير على المستوى الأخير للوحة . يحمل كل منهما حمولة ثقيلة للدلالة على بعض الممارسات العبودية القاسية و التي لم تستثن حتى الأطفال والنساء. تَعامَل الإستعمار الإسباني مع الشعوب المحتلة كعبيد يعملون في مزرعة الحاكم. تُحيل اللوحة بشكل عام على موضوع تاريخي ولكنها تُركز أيضا على بعض المظاهر الإجتماعية القاسية والمرفوضة، كاستغلال الأطفال والنساء في أعمال يومية شاقة. الشيء الذي يجعلنا نُحيل جزءً مهما منها على ما يسمى ب (الإجتماعية الواقعية)، وهي الحركة الفنية التي اهتمت بتصوير معاناة الطبقة العاملة.

9- وفي هذه النقطة من اللوحة يستعرض الجيش الإسباني سلطويته ب: رفع أسلحته النارية والتعامل مع العاملين بمنطق الإستعلاء والقوة عن طريق إعطاء الأوامر من أعلى الأحصنة.

-10تعمل بعض العناصر البادية على المستوى الثالث للوحة في محجر . ينهال بعض الحراس عليهم بالسياط ليُعجِّلوا من حركتهم ويُسرِّعوا من وتيرة العمل .

-11 ينتقل بعض العاملين بالمحجر برفقة عناصر أخرى تحمل الخشب نحو مكان آخر ، وكالعادة تحت مراقبة الحراس، لتشييد بنايات في الساحات التي يقطنها المستعمِر. هذا المشهد لا يحيل فقط على قهر الشعوب وإنما أيضا على موضوع تدمير البيئة و قهر الطبيعة.

12- تبدو ظاهرة تمازج الأجناس جلية من خلال مشهد الأم الأزتيكية التي تحمل طفلا ذا ملامح مختلفة عن الشكل المُميِّز للسكان الأصليين.

13- يحمل بعض الإسبان الذهب بينما يحمل بجانبهم بعض الأزتيك أدوات للعمل .

14- يُستغلُّ بعض الأشخاص في أعمال غير آدمية. حيث يتخذون وضعية الثيران لحرث أرض يُديرها أحد الإسبان.

15- تشغل ثلاث شخصيات مركز اللوحة. ينتمي أحدهم للطبقة الأرستقراطية الشيء الذي نستنتجه من خلال ملابسه الفاخرة. الثاني إسباني ولكن ينتمي لطبقة اجتماعية أقل شأنا إذ يبدو أنه يسدد ضريبة للشخص الأول. أما الثالث فموظف من مؤسسة العدل.

تنتمي أحداث اللوحة زمنيا لمرحلة الهيمنة الإسبانية حيث تم معاملة الأزتيكي بطريقة غير آدمية . إلا أن أتعس نصيب في المعاناة ناله العبيد السود الذين جُلِبوا من افريقيا. اشتبك موضوع الإحتلال بقضايا شائكة متعلقة بإلغاء الهوية والإستغلال و قهر الثقافات والشعوب المحتلة. وتطالب اللوحة باحترام التعددية الثقافية وبالتقيد بمبدأ الإعتراف بالآخر. اضافة الى التوعية بضرورة تحرر ثقافات وقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الإستعمار والمركزية للأقوى. فليس هناك ثقافة أرقى من ثقافة أخرى وإنما هناك ثقافة مختلفة عن ثقافة أخرى. كما ان اللوحة تجسد لحقبة تاريخية مضت وانقضت. عفوا ! هل حقا انقضت السياسات الإستعمارية؟ أم أنها اتخذت قالبا أكثر خبثا؟

 

سميرة فخرالدين

 

 

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *