تعد القراءة و التمعن في النكبة الأندلسية و تهجير الموريسكيين بوابة لفهم نكبات و تغريبات مماثلة عاشتها شعوب مسلمة. تعددت النسخ المكررة من مأساة الأندلسيين و طردهم من بلادهم لنرى مثيلاتها في القوقاز و الهند و بورما و فلسطين و غيرها من مكامن الوجع في الجسد الإسلامي و تاريخه الطويل.
نضع عدسة المجهر التاريخية في رؤيتنا على شخصية عاصرت نكبة الموريسكيين و عانت و خاضت التجارب الطويلة و سجلتها لنا. نتحدث هنا عن الرحالة و المترجم و الدبلوماسي الموريسكي شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري، المعروف بأفوقاي الأندلسي، و أفوقاي هنا مشتقة من الكلمة الإسبانية التي تعني المحامي. ولد أفوقاي في ذروة المأساة الأندلسية و مع مخاض فصولها الأخيرة في النصف الثاني من القرن السادس عشر. و نشأ و ترعرع في عهد الطاغية الإسباني و قامع ثورة البشرات في غرناطة فيليب الثاني. اكتسب شهاب الدين معرفة ممتازة في اللغات مكنته من كسب موقع أفضل من عامة المجتمع الموريسكي الذي كان يتعرض لويلات محاكم التفتيش و أهوال الجرائم الإسبانية، إذ كانت السلطات الإسبانية تحتاج لمن يتقن اللغات اللاتينية و الإسبانية و العربية لدعم عملية الترجمة و نقل المعارف. و في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، ضاقت الأندلس بما رحبت على شهاب الدين و اشتد الخناق على روحه من المكوث في أوساط يسودها عصاب التنصير و الموت، فقرر النجاة بنفسه و دينه و الهجرة إلى عدوة المغرب. انطلق أفوقاي من ميناء سانتا ماريا في قادش جنوب الأندلس مدعياً أنه عجوز نصراني، و نزل في ميناء مازاغان في المغرب الذي كان مستعمرة برتغالية أنذاك. و هناك بدأ مع رفيق له رحلة هروب تحفها الأهوال و المخاطر و يحفزها الشوق و الأمل لبلوغ ديار الإسلام. تمكن شهاب الدين أخيراً من الوصول إلى أرض المسلمين و سجل في تدوينات رحلته كل مجريات الأحداث، واصفاً سعادته بلقاء أخوة الدين و النجاة من يد المجرمين. لدرجة أنه سمى كتاب رحلته بكتاب ( رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب ).
وصل أفوقاي بلاد المغرب حين كان سلطانها أحمد المنصور الذهبي، و كان قد تولي منصبه في عام 1578 للميلاد وسط معركة وادي المخازن، و التي لقي فيها البرتغاليون على يد المسلمين هزيمة ساحقة، فلقب بالمنصور تيمناً بالنصر التاريخي، و كان عصره من أعظم عصور المغرب، و كان قد بلغت مدة حكمه حينما وفد عليه الشهاب الحجري أفوقاي أكثر من عشرين عاماً. فلما قدّم إليه قائده محمد بن إبراهيم الشعياني (و كان أثيراً لديه و موضع ثقته و تقديره لما أبداه في حكم منطقة أزمور التي نزل بها أفوقاي و استقر بها)، لما قدّم الشعياني أفوقاي للسلطان، وقف على قصته و ما يتمتع به من براعة أدبية و لغوية، و أولاه عطفه و أمر بتعيينه مترجماً للبلاط، و أبدى الشهاب براعة في أعمال الترجمة من العربية إلى الإسبانية و من الإسبانية إلى العربية، و أسبغ عليه لقب “ترجمان سلاطين مراكش”. و كان يستعمله السلطان سفيراً عنه في بعض البلاد الأوروبية. و لما توفي السلطان أحمد المنصور في سنة 1603 للميلاد استمر الشهاب في عمله بالبلاط المغربي خلال الحرب الأهلية بين السعديين التي تلت وفاة المنصور ثم مدة أخرى في ظل ولده السلطان مولاي زيدان.
في مقال قادم، سوف نطالع صوراً مما شهده شهاب الدين من مواقف، و مهماته التي نفذها في البلدان الأوربية، و شخصيته كمسلم مع نوازع النفس و هواها، و أفكاره لاستعادة الأندلس.
