قواعد العشق في غرناطة فاقت (الأربعون)

قواعد العشق في غرناطة فاقت (الأربعون)

 

غرناطة ليست شرقية ولا غربية. غرناطة غرناطية.. فقط!


    تحيط بها هالة من “الجيوبسيكيا” أو الجغرافية النفسية التي تجعلها حالة منفردة عالقة بين افريقيا وأوروبا، بين المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية، بين الشرق والغرب، بين تطوان ودمشق، بين تلمسان وتستور… غرناطة حالة وجدانية فريدة مستقلة وستبقى كذلك، على الأقل في مخيلتنا.


    تُعتبَرُ الأماكن أكثر من مجرد مجموعة من المتغيرات الوجودية والمساحات المُجَهَّزَة حسب نظام محدد وهيكل معين. لكل مكان أو بيئة جغرافية كَوْكَبَة من المعاني الوجدانية التي يبنيها الناس حولها، معانٍ تستند إلى تجربتنا مع المكان وترتبط بمدى تأثيره النفسي علينا. ولعل أهم هذه المعاني وأكثرها رسوخاً، تلك المفاهيم المُشترَكة الموضوعة جماعيّاً والمنسوبة اجتماعياً والممتدة تاريخيا، تلك المعاني التي تشكلت بالماضي ولازالت تتشكل بالحاضر لتمنح لكل فضاء نكهة مختلفة، تذكرة مُغايرة وبطاقة تعريفية منفردة . يميل الأفراد إلى إقامة روابط هوياتية مع بيئاتهم الخاصة، لاسيما تلك الأكثر صلة بتاريخهم وحياتهم اليومية. لذلك عندما يتم انتهاك هذه الأماكن، مهاجمتها، تهديدها، أو تدميرها، تدخل المجتمعات في حالة من المعاناة، وهذا يدل على أن الرابط الذي نشير إليه هو، إلى حد كبير، رابط نفسي عاطفي.


    يُساهم هذا الارتباط الوجداني، من جهة أخرى، في تعزيز الرفاه النفسي للأفراد والمجتمعات. إن مجرد مغادرة مدينة إسبانية شمالية لم تُعانقها الأندلس والتوجه نحو المدن ذات النكهة الإسلامية الأندلسية يُشعِرُنا براحة نفسية كبيرة، تماما كمن غادر سُكْر فضول الدنيا المَخْلُوط ومشاغلها المَشُوب لسُكْر ابتهال صادق مُصَفَّى بين يدي خالقه وتمايل مع المائلين: “يا الله ياحبيبي ﻳﺎﻣﻼﺫﻱ ﻳﺎ أﻣﺎﻧﻲ يا مجيبي…”. وأدرك فجأة أن أسمى دمع لايأتي عن حزن وكآبة أو سعادة وسرور وإنما يأتي عندما نَلِجُ سكينة السمو الروحاني. يأتي عندما تتحرر الأجسام من أسى طينها من توابيت تُرابها وتنعتق من مومياها. يأتي عندما تتدفق المشاعر من القلب نحو سيدها وربها ومولاها نحو روابيها وأغوار قُراها.


    من يُحب الجمال يبحثُ عنه حتى في أكثر الأشياء بساطة.. في حبات سمسم تزين سطح رغيف خبز، في رغوة كأس شاي بالنعناع، في زخرفة آنية طين منه خُلقنا وإليه نعود في مصباح من قصب ينثر في الذهن حلاوة السكر أو في طلاء أزرق يقول للبحر كن فيكون. كل الجمال يستوطن دواخلنا، ولكي نتذكره ونستدعيه ونستحضره علينا رؤيته، رؤية أشياء جميلة تُذكرنا به، رؤية أماكن جميلة تُذكرنا به، رؤية الأندلس!


    في الأندلس فقط ، ندرِكُ أن السمراء تُعشَق والصهباء تُعشَق والخمرية تُعشَق والسوداء تُعشَق والقمحية تُعشَق والبيضاء تُعشَق لأن غرناطةُ الصباح تُعشَق، وغرناطةُ المساء تُعشَق، وغرناطة الشتاء تُعشَق، وغرناطة الصيف تُعشَق… في الأندلس فقط ندرِكُ أن الشمس الحارقة مُبهِجَة وخلاَّبة، مُبهِجَة لا بحضورها نهاراً وإنما بغيابها ليلا، إذ تُخلِّفُ وراءها أمسيات ليلية دافئة جليلة. أمسيات تتسرب نشوتها حتى للمتحدث عنها. أمسيات من ألف ليلة وليلة لايفوقها جمالا سوى مشهد عامل غرناطي يأوي أخيراً لفراشه بعد أن رمَّمَ زخرفة دقيقة بالحمراء، وأنفق في ذلك ألف انحناء وانحناء. في الأندلس فقط، نُدرِكُ أننا خُلِقنا من طين غير عازل للحرارة، طين قادر على إنارة قناديل البيازين بوَصلِها بأرواحنا المُشتَعِلة، طين قادر على إحراق المصابيح بسعير زفرة، ِبأُوارِ شرارة جائية ذاهبة من حمراء بني الأحمر. ولاتُدافع غرناطة عن نفسها، فأمام لظى العِشق ما من أحد يُدافع عن نفسه. في الأندلس فقط نُدرِكُ أن الزُليج لايتم تركيبُه باليدين وإنما بالقلب. وفي غرناطة فقط نُدرِكُ أخيراً أن الرمان عندما تكتملُ حلاوتُه يُفَجِّرُ اللحاء، تنفجِرُ الرُّمانة فتُولَدُ غرناطة. عندما تحتار، أي لون ترتدي، سيفوز الأزرق وعندما تحتار أي مدينة أندلسية تزور، ستفوز غرناطة، ففي غرناطة فقط، قواعد العشق فاقت (الأربعون).


    من يُحب الحب ينطق بلغته. وأسمى لغات الحب العناق. كل الحركات والأعمال والانشغالات والكلمات تُفضي إلى الملل… إلا العناق. بعض لغات الساكنة الأصلية لأمريكا اللاتينية تسَمِّي السماء “البحر الأعلى”. لابد أن رب العالمين الذي لوَّن السماء بالأزرق لنكون بخير تحتها، لوَّن العناق بالإطراق والانحناء لنرتشف منه أكبر قدر من السكينة والوداد ونكون تحته بخير أيضا. في العناق إطراق مهيب وطأطأة جليلة تُذيعُ نعيم القرب ورغد الوصال ودفء الكلف ورفاهة الود من القلب إلى سائر الأعضاء. “إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ” الود من المودة، وإذا كانت المحبة ما استقر في القلب والوجدان والعاطفة، والعقل. فالمودة ما ظهر منها على الجوارح، أي أنها أقرب إلى أن تكون عملية من التفاعل الأليف واللين بين المُحبين. العناق… واحد من أسمى التعابير الإنسانية. هو الهدأة والهدوء و الهوادة. إطراقه وقار جموده هدير ثباته ضجة صمته إفصاح سكوته منطق خُشوعه صلاة ثبوته سلام… “سلام هو حتى مطلع الفجر”. هناك متعة أجمل من معانقة الحبيب ألا وهي معانقته مرة أخرى، و هناك متعة أجمل من زيارة غرناطة ألا وهي زيارتها مرة أخرى. عندما تحبين رجلا ما سيصبح جزء من بشرتك وعيناك وشعرك وغنائك وطعامك وأولادك ووالدايك، وعندما تزورين غرناطة ستصبح جزء من هويتك وأناك. وحده الحبيب قادر أن يرُدّك طفلة مدللة بظفيرة من صنع يديه، ليَستَرِدّك بالعشق امرأة مدججة بالأنوثة بتحريره الظفيرة نفسها من كل رباط، ووحدها غرناطة قادرة على جعلك صبية تائهة بين الأزقة لتستردك أميرة ناضجة بين القصور. وكلما قلتِ أن الحبيب أجمل مافي الوجود يصرخ قلبك مصححا بل هو كل الوجود، وكلما قلتِ أن غرناطة من أجمل مدن اسبانيا يصرخ ضميرك مصححا بل هي مستقلة عن اسبانيا!

 

أجمل غروب للشمس بالعالم

 

مطل سان نيكولاس بغرناطة



    إلا أول لقاء بمطل سان نيكولاس فإنه لا يبدأ أبداً بإلقاء التحية، لعلها دهشة النظرة الأولى. إلا بمطل سان نيكولاس لن تتساءل أبداً عن أي النظريات هي الأصدق لدراسة المكان أهي المادية أم المثالية. إلا بمطل سان نيكولاس لن تهتم أبداً بتأمل إذا ما كانت المادة (الوجود/ الطبيعة) تتقدم الفكر (الوعي) أم العكس. ستضرب كل النظريات المتعلقة بالتأمل العقلي للظاهرة المكانية عرض الحائط. فالفضاء غني عن كل تلك التعقيدات. لا مكان هناك إلا للنشوة وممارسة الجمال وتبني البساطة المريحة وارتشاف خمر الهذيان ومعانقة سَكرة اللاعقل. يقع مطل سان نيكولاس بقمة البيازين بغرناطة. مشهده البانورامي المنفتح على الحمراء، وارتفاعه الشاهق مقارنة بمستوى المدينة المنحدر، يجعلان منه واحدا من الأماكن الأكثر إقبالا بغرناطة. يتمتع المكان خلال النهار بجو بوهيمي. فهو فضاء لختم مواعيد عُقدت من قبل، ومتجر هواء طلق صالح لعرض تجارات صغيرة متنقلة أغلبها لأعمال فنية يدوية.

    يستطيع زائر حي البيازين الإستمتاع بتأملات بانورامية للمدينة من بعض مقاهي ومطاعم الحي. ولكن يظل مشهد مطل سان نيكولاس البانورامي أهمها، أبهاها وأشملها على الإطلاق. يتسم المكان بجاذبية أكبر خلال المساء. حيث تُضفي فرق فلامنكو موسيقية رونقا خاصا على المطل في آخر ساعات النهار. بعضها لهواة يبحثون عن المتعة وأخرى لمجموعات اتخدت من عزفها الفني موردا للعيش. رنين قيثارة، غناء، رقص، وأناس يصحبون معهم كتبهم أو مشروباتهم لعين المكان، كلها عوامل تجعل من المطل فضاءً ساحرا، فريدا ومختلفا. كلها بواعث لمقولة فولتير حين أَنْبَأَ: “دعونا نقرأ، دعونا نرقص فهاتان المتعتان لن تؤذيان العالم أبدا”. مثير للاهتمام و التأمل أن المرء حين يرقص لايُؤذي، لايَضُر، لايُوجِع. الذي يرقص لايكره حينها أبدا، الذي يرقص يشعر فقط، يتأثر، يركض خلف انفعالاته، يُطلِقُ العنان لعواطفه، يُحِب. ينشغل بالتخطيط لرَقصَة من صنعه، رقصة مِلْكٌ له وحده، رقصة من تخبُّط دمائه، واهتزاز مشاعره. ينشغل بتذويب انفعالاته في تعبيراته وملامحه وحركاته. ينشغل بحالة الارتواء الروحي التي تتملكه. ينشغل برسم لوحة لا يُبدِعُها الرسامون وكلمة لايُؤلِّفُها الشعراء. ينشغل بتحرير النفس من طينها وارتشاف هزة من تحت تُراب الكلام. ينشغل باحراق جليد الروح بنار اللحظة، باصطدام الباطن بالظاهر، السريرة بالجهيرة، الدخيلة بالملمح. ينشغل بترويض طويَّة تنمو وتسمو وتحلق بروحه. ينشغل باتباع وقيد شرارتها ومنزل صبواتها ومُستقر تقلباتها وسيل مرتعها في الذات ومثوى ركودها الأخير بجسمه. ينشغل بابتكار طريق مختصر للسعادة، ينشغل بخلق جمال، مهما اختلف من ثقافة لأخرى، تتفق الشعوب على استشعاره وفهمِه في الوقت الذي لم تتفق فيه على وحدة معاني كُتُبِها المقدسة. الذي لا يستطعم الجمال من السهل جدا أن يضُر، أن يوجع وأن يُفسد. ليست النصوص الدينية الوحيدة التي تمنعنا من ارتكاب المعاصي وإنما أيضا الوازع الروحي و امتلاك الحس الجمالي أو حيازة الوعي بالجمال. الذي لا يستطيب الجمال من السهل جدا أن يؤذي، أن يُشجي، أن يُحزِن وأن يرتكب المعصية. المعصية دميمة بشعة رديئة قبيحة دمثة ثقيلة على قلب جميل يرق للجمال ويستلذ بهجة به. المعصية دميمة في قلب يهتز لوضاءة منظر طبيعي، يأنس لرونق مجاز لغوي، يهتز للوحة فنية معبرة. المعصية دميمة في عين تدمع لذِكرٍ عذب رائق، لتلاوة طيبة، لاعتصار موسيقي دَقِيق… لعذوبة نغمة ساحرة رقيقة. من يلين للجمال تمتلىء روحه رِقة وحُنُوا على البشر.


    من شهادة بيل كلينتون في المطل أن قال: هنا يمكن للمرء تأمل “أجمل غروب للشمس بالعالم”. حيث تتحرش حُمرة الغروب بحُمرة الحمراء. ثم يبدأ وجه أندلس المساء بالتشكل. منظر يغسل بالسحر أتعاب الدهر. طبيعة تشرب طرب الغروب ورنين العزف. ونغمات تشق بعذوبتها كل فِكر. برهة من نشوة تعادل طول الدهر. يستل الجمال خنجرا. ينتحر. فلا جمال فوق جمال الحمراء المدوي. تمر بقايا أشعة الشمس على الخدين، تحرق بعذوبة الشامات والشم. تستفزك. تؤلمك. فتبتسم لها بمذلة بعد أن تتفقد القلب!

    تضم ساحة مطل سان نيكولاس مسجد غرناطة الكبير الذي تم تشييده سنة 2003 (ويعتبر أول مسجد تم بناؤه منذ سقوط غرناطة سنة 1492) وكنيسة سان نيكولاس التي تعود لسنة 1525. كان المكان سابقاً عبارة عن ساحة واسعة ضمت مسجدا مُتَقَدِّما اختفى حاليا ولم يبق منه سوى صهريج ماء صغير استُخدِمَ على الأرجح للوضوء. كل الموجودات تتناسق مع بعضها وتتفاعل وإن كانت مستقلة بذاتها مما يكسب المكان سمة خاصة. ينتظم الفضاء في تجمعات مكانية متباينة ترتبط فيما بينها بعلاقات العِلّية. لكل صرح وظرف عِلَّة تجعل منه سبباً في إحداث آخر. الحمراء عِلة وجود المطل. والمطل علة وجود تلك المباني من كنيسة ومسجد وعلة جمال المكان. وجمال المكان علة لشهرته. وشهرته علة لتدفق السياح إليه من كل صوب ولحركيته. ولاعِلَّة لإغلاق مسجد غرناطة ليلاً. ولا علة لإغلاق كنيسة سان نيكولاس ليلا. ولا عِلَّةَ لإغلاق بيوت الله ليلا. ليبقى السؤال الذي يفرض نفسه في كل البلدان: لماذا تُغلق دور العبادة أبوابها ليلاً وهو الوقت الذي يحتاجها فيه المتعبد أكثر؟ لماذا تُغلق المساجد والكنائس ليلا وأرواح العباد في سكينة الليل تكون إلى بارئها أقرب؟ لماذا والأنفس حينها فقط تتحجب عن فضول النهار.. فضول الدنيا؟ لماذا تُغلق أبوابها والروح تستعذب مناجاته في هدأة الظلام أكثر، وتقتبس نور القربات بشكل أصدق؟ لماذا وبالليل فقط يأكل الباطن الظاهر، ويلتهم المحسوس الملموس فيحلو الوصال؟ لماذا وبالليل فقط تتجلى متناقضات الضعف الإنساني بشكل أصدق؟ يُناجي العبد ربه، يدعو، يخاف، يطمئن، ينخفض، يرتفع، يشك، يوقن، ينحدر، يسمو، يبتعد، يقترب، يتقاعس، يتقرَّب، يحزن، يفرح، يغفل، يستغفر، يتوب، يشكو، يحمد، … يطوف تحت سماء ربه متخبطا من حال إلى حال إلى أن يُنهي الرحلة ويُوقف المسير ويختم السفر ثم يخلد أخيرا إلى النوم أو إلى الموت.

    ولأننا عاجزون عن لمس أرواحنا، عاجزون عن رؤية أرواحنا بشكل مادي ملموس، عاجزون عن الإمساك بأرواحنا بين أيدينا وتشكيلها كمادة، فإننا نستمد لهذه الأرواح التي تسكننا شكلاً مناسبا وهيئة ملائمة من كل الموجودات المادية التي نُحيطُ بها أنفسنا: الألوان، الأشكال، الأثاث، الأواني، الأزياء، اللوحات، الصور، التصاميم، الموسيقى…. نحرر أرواحنا من صدورنا لنبعثها في كل شئ مادي ملموس. وهكذا تولد الأذواق المتباينة لتُناسِبَ أرواحاً متباينة… أرواحاً سابحة في الموجودات المختلفة. ولأننا عاجزون عن لمس الأندلس والعيش بالأندلس، فإننا نجتهد كزوار للمطل في تأمل قرون من التاريخ الإسلامي من علو مكان مميز. نحاول تصور كيف مرت حياة بني نصر بين تلك الحيطان. نستمتع بتجسيد البعد الواقعي للمكان بالتركيز على نماذج لشخصيات تاريخية مرجعية مما يمنحنا صورة إجمالية عن الموروث الثقافي المحلي بشكل عام. ندرك أننا أمام حالة تاريخية معقدة بدأت مع محمد الأول ومرت بالملوك الكاتوليك والإمبراطور كارلوس الخامس ولا زالت مستمرة بشكل أو بآخر إلى اليوم. نستحضر تصوراً للشخصيات وللأحداث بشكل يساعد على تجاوز التصوير التقريري والمضي إلى عوالم من الوعي الذهني والإدراكي الذي لا يخلو بدوره من الجمال. وبدل تغريب المكان في حيطان صماء، نقوم بأنسنة الواقع وأسطرته في قالب تاريخي. نُصنِّف الظاهرة المكانية بعيداً عن تأملات الجيوفيزكس البكماء فلا متعة تفوق لذة استحضار عاملي الإنسان والتاريخ والزمن.

 

رواق قصر الحمراء المَكسور

 

يُطلَق اسم “اللامكان” على المساحات التي لاتربِطُنا بها علاقات وجدانية، والفضاءات التي لاتُشكِّلُ عُبوراً لهويتنا ولاجسراً لماضينا ولاتَقطع لتاريخنا تذكِرَة. لذلك عادة ماتُطلَق عبارة “اللامكان” على الفضاءات المحايدة كالمطارات والطرقات ووسائل النقل ومراكز التسوق ومقرات شبكات الاتصالات… في المطار مثلا، نتجرَّدُ من كل صلة جماعية قد يبني من خلالها المرء هويَّتَه. نتحول إلى سلسلة متتابعة من الأفراد، حتى أننا نضطر في كل حين للكشف عن جواز سفرنا كنوع من التصريح بالهوية، سواء إذا كنا في حالة مغادرة أو وصول. وبين هاتين النقطتين، نتحوَّلُ إلى مجرد مسافرين مجهولين يُشاَرُ إليهم برقم مقعد ورقم رحلة. كذلك تنقسم المعالم السياحية الإسبانية في أذهاننا أحياناً إلى أماكن و”لا أماكن” وفقا لمدى ارتباطها أو انفصالها عن تاريخنا الإسلامي الأندلسي. ولعل هذا الشعور بـ “اللامكان” هو نفس الإحساس الذي يتملَّكُ كل عربي أو أمازيغي مسلم يزور قصر كارلوس الخامس المتواجد بمُجمَّع قصر الحمراء أوّل مرة.


    عندما يزور السائح غرناطة سيفكر في الحمراء، في جنة العريف، في مسلمي الأندلس، في طابع المدينة التاريخي الإسلامي، في المساجد، في البيازين وأزقته المزهرة الضيقة. ولكن، وما إن تزور مجمع الحمراء السياحي حتى تتفاجأ ببناية تاريخية ضخمة على الطراز الروماني. بناية تتناقض معماريا ًمع الحمراء ومع هيئة المدينة بشكل عام ألا وهي قصر كارلوس الخامس. يصعب على الزائر المرور من حِس الحمراء الإسلامي النَاعِم الرَشِيق الرقيق الرطيب المرهف ليجد نفسه مباشرة في قصر كارلوس الخامس الرمادي ذي الأعمدة الضخمة الجبارة المُستحكِمَة الصَليبة البَرُودَة المفتولة الناشفة. صعب. وإن كان باذخاً في طرازه المعماري الخاص به، عظيماً في بنائه، وثيقاً في هيكله، وَكيداً في استدارته، فخماً في منهجه، يبقى ذلك صعباً.

 

 

قصر كارلوس الخامس المتواجد بمُجمَّع قصر الحمراء



       يحكي القصر واقعة معمارية تاريخية لم تأخذ حقها من التعريف والشهرة، ألا وهي تحطيم كارلوس الخامس جزءاً من الحمراء لتشييد قصره الخاص بجوارها، قصر كارلوس الخامس. تعود أحداث قصة الهدم إلى فترة زواج الإمبراطور كارلوس بملكة البرتغال إيزابيل أفيس حيث قررا الإقامة بالحمراء في فترة ما بعد حفل الزفاف. أدى اعجابهما بالحمراء إلى إصدار قرار بتحطيم الرواق الواقع بالممر الجنوبي لفناء الريحان وتشييد قصر كارلوس الخامس في مكانه. أمر الإمبراطور ببناء القصر إلى جوار الحمراء حتى يستمتع بعجائبها. وكُلف المهندس “بيدرو ماتشوكا” بالمهمة. بدأت عملية تحطيم رواق الحمراء وبناء قصر كارلوس سنة 1527. شيد القصر بالمكان المقابل لبرج قُمارش في قلب الحمراء (بالشق الخلفي لفناء الريحان). لم يثر هذا الهدم المثير للجدل في تلك الحقبة أي تنديد أو استنكار. لم يثر حفيظة أي سلطة وذلك لأن تهديم الصروح والقصور من طرف المستعمر المنتصر كان أمراً اعتيادياً. بل ويمضي البعض بالاستدلال بحادثة هدم رواق الحمراء للبرهنة على الحس الفني الراقي للامبراطور كارلوس الخامس. إذ أنه لم يحطمها بالكامل بل حطم فقط جزءاً منها. وهو الجزء الممتد بالشق الخلفي لفناء الريحان ليشيد في مكانه قصراً يسمح له بتأمل جمالها. يذهب بعض الباحثين إلى الإقرار بأن ما حطمه كارلوس الخامس لم يكن فقط رواقاً تابعاً للحمراء وإنما القصر الشتوي للحمراء. ولكن تبقى رواية الرواق هي الأكثر مصداقية في غياب أي دليل يبرهن على وجود ذلك القصر الشتوي. خصص الطابق السفلي من قصر كارلوس الخامس لمتحف الحمراء. ويضم المتحف كنوزاً إسلامية أندلسية نادرة. أما الطابق العلوي للقصر فقد أصبح منذ سنة 1958 مقراً لمتحف غرناطة للفنون الجميلة. متحف متخصص في عرض لوحات رسم مابين القرنين الخامس عشر والعشرين. أغلب اللوحات تستعرض مواضيع دينية وأخرى تاريخية. ولعل أهم لوحة قد تستوقفك لوحة “خروج أسرة أبو عبديل من الحمراء” للرسام مانويل غوميز مورينو”.


    سلَّموني خريطة عند باب مُجمَّع الحمراء. احتمت جثّة رطبة بحقيبتي، وبين أناملي. شاركتني البحث عن الجمال في كبد معلمة بني نصر، البحث عن مناجم الأحلام في الحمراء والأبراج والممرات وعن المعالم ذات العينين السوداوين، الحمامتين. وعن المعالم ذات العينين العسليتين، الشوكتين. لعَقت عند القصر الرمادي من دم وجهي حسائها ولم أنهها ولم أرُدها. ضيعتُها في آخر الزيارة. ضيعتُ بصمات الذكرى فيها وفيّ. ضيَّعتُ شوقي المشبوه إلى رواق الحمراء المكسور، وشوقي غير المشبوه لمرافق الحمراء الممنوعة عن العامة. تختزن إحدى قاعات الحمراء المسمّاة “قاعة الأسرار” ظاهرة سمعية عجيبة ونادرة. القاعة ممنوعة حاليًا عن العامة. هي قاعة تحت أرضية. تقع في القبو الواقع مباشرة تحت قاعة الأختين بالحمراء. وتنفرد بظاهرة صوتية غريبة. عندما يقف الشخص باتجاه جدران الغرفة، ويهمس أو يتحدث بصوت منخفض موجهًا صوته إلى السقف أو لجدران الغرفة، يستطيع شخص آخر على الجانب الآخر من القاعة سماع صوته بوضوح وإن كانت المسافة بعيدة بينهما. بذلك يمكن أن تجري محادثة بين شخصين اتخد كل منهما الشطر المعاكس من نفس القاعة مكانًا له. في حين أن الأشخاص الأقرب إلى الشخص الأول، و المتمركزين وسط الغرفة، لن يتمكنوا من سماع أي شيء. وتفسر الظاهرة بالتشييد الهندسي المميز للقاعة.

 

في غرناطة فحمٌ لا يُداس



    لاتدوس أقدامنا تراب الأندلس، وإنما تحتضنه. لاتدوس أقدامنا تراباً غرناطيا سارَ فوقه ابن زمرك، ابن فركون، ابن الجياب، عائشة الحرة، نزهون الغرناطية، حفصة الركونية، نُضار بنت أبي حيَّان…. وإنما تُعانقه وتَضُمُّه. حتى فحم غرناطة لا يُداس. يدعى خان الفحم أو ساحة الفحم. يقع بشارع ماريا بينيدا بغرناطة. وهو مبنى أندلسي ذو تصميم مربّع يتوسطه فناء، وتمر بجوانبه أروقة بها مبان مستطيلة مقسّمة إلى مساكن عديدة يتوسّطها حوض مربّع الزوايا. استراحت الأروقة على دعامات حجرية و ركائز خشبية اشتكت جمال نقوش حُفِرَت على جسمها لتسرق منها بهاءً بالجود سال، راقبَتهُ العين دون أن تشكو ملالا. تزيَّنَ قوس المدخل بـ ” قل هو الله أحد، الله الصمد لم يلد ولم يولد”. وفي غياب أي دليل أو لافتة ترشدني أو تمنحني أي معلومات، لجأتُ لحارس المبنى الذي كسَت الشمس وجهه احمرارا، فوَهبتُه بأسئلتي ظلالا. أخبرني أن تم بناء هذا الصرح الأندلسي في القرن الرابع عشر في عهد النصريين وسُمي حينها بالفندق الجديد حيث خصص للخدمات الفندقية. ليشكل بذلك الفندق العربي الوحيد الذي تم الحفاظ عليه بشبه الجزيرة الإيبيرية. وفي القرن السادس عشر باع القشتاليون البناية بالمزاد العلني ليصبح مستودعاً للفحم ثم شققاً سكنية ومحلات تجارية فيما بعد. في عام 1918، أُعلن المكان صرحاً تاريخيّاً وفنيّاً وطنيّاً ورمّمه المهندس رافاييل سولير ماركيز سنة 2005.


    يطلق اسم “كارمن carmen” على البيوتات الغرناطية التقليدية ذات الحدائق. ويشتق اللفظ من الكلمة العربية “كرم” (شجرة العنب) حيث استعمل مسلمو الأندلس اللفظ أيضاً للإحالة على الأماكن ذات البساتين، الحقول أو الحدائق. اعتاد الأندلسيون طلاء جدران الحمامات العمومية بالأحمر لتمنح إحساساً إضافياً بسخونة الجو وحماوة المكان وحرّ الفضاء. بعيداً عن رمزية الأحمر المرتبطة ببهجة الشمس ودفء الطقس وحرارة الأُلفة ولَسْعَة الفلفل وجاذبية حُمرة الخجل… تبقى أجمل رمزية للون تلك التي تُعَبِّرُ عن وحدة الإنسان.. أبيض، أسود، أسمر… على اختلاف لون البشرة يبقى لون الدم الذي يجري بالعروق واحداً.


    نبحث عن القمر طوال اليوم، وعندما نعثر عليه نترُكُهُ وننام. نبحث عن غرناطة طوال السنة وعندما نعثر عليها نترُكُها ونرحل. نستردُ الحقيبة المتوسطة من الخزانة. نصفف من جديد الثياب. نرتقي أعالي السبيل لنعود في كل مرة إلى منزلق الطرقات والتذاكر والمطارات. نرسم خطوات مقيدة على طريق مطلق. يطوف الصمت بين المباني القصيرة. تُحرك قهقهات الساكنة ستارة النافذة. نرحل بعيداً بالسمع نحو هَزِيْز الريح المتزايد، وخرير المياه الباردة المتدفقة في القنوات الطويلة. ينحني عامل لقطع شجرة، لابأس، لن أبقى وقتاً طويلا هنا ولن أرى، عندما يقطعونها سأكون بعيدة ولن أشعر بأي شيء.

 

سميرة فخرالدين

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *