الكاتب إبراهيم أحمد عيسى
غرناطة – رمانة الجنة الأخيرة
” ابن الأحمر و المريني “
فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مُرسيةً … وأينَ شاطبةٌ أمْ أينَ جَيَّانُ
وأين قُرطبة دارُ العلوم فكم … من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حْمص وما تحويه من نزهٍ … ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ
هكذا فقدت الأندلس قواعدها تباعاً كما وصفها الشاعر الأندلسي ” أبو البقاء الرندي ” في مرثيته الخالدة … وكما أشرنا في الجزء السابق أنه لم يبق سوى إمارة ابن الأحمر …
مملكة ابن الأحمر
أصبحت الملاذ الأمن لمن فضل الهجرة من المدن الأخرى , حيث كانوا يعيشون – مدجنين – وهو أسم أطلق على المسلمين الذين بقوا في مدنهم كمواطنين من الدرجة الثالثة تحت حكم قشتالة وأخواتها من الممالك النصرانية , يوماً بعد يوم أخذت غرناطة في النمو , فأزداد سكانها كثرة على كثرة , جائها المهاجرون من أقاليم الاندلس كافة يحملون معهم ثروات نجحوا في الهروب بها من أيدي النصارى , فأزداد النشاط الإقتصادي وأصبحت غرناطة أندلسا مصغرة , ولكنها قويت بفضل الآلام , وجدوا في تلك المدينة التي تظلها الجبال لحمايتها أمنهم … وبرغم حملات قشتالة ونقض عهودها مرة تلو الأخرى إلا أن ابن الأحمر أصبح شوكة في حلق قشتالة , فالمهاجرون إلى غرناطة منحوها قوة نابعة من بغضهم لمن شردهم وفتك بمدنهم …
أما محمد بن الأحمر , فكان محل دهشة العامة والخاصة فهو يلبس الخشن ويؤثر البداوة يباشر أدق الأعمال بنفسه لا يكل ولا يمل, تجده في الوغى أسدا يفتك بأعدائه , أما في أمور الحكم فالبعض يراه ماكرا إلا أن مكره لم يكن ذو طبيعة خبيثة وضيعة , ويراه البعض مضطربا فأحياناً يهادن النصارى ومرة أخرى يحاربهم ويفتك بهم , ثم يعود ليعلن طاعته , فقد كانت بوادر خضوعه لأعدائه ليست سوى مظاهر فقط لسياسة محكمة التدبير , لتوطيد ملكه وسلطانه , وكلما مر على غرناطة يوم تصبح أقوى مما كانت عليه , وأنشأ حصن الحمراء ليكون شاهداً على حقبة غرناطة النصرية , فتلك المملكة الصغيرة الناشئة تحدت الظروف وبقيت رغم الإنحلال والتفكك … ومنحت المسلمين في شتى أصقاع الأندلس أملا … فمع اشتداد عزمها منح ملوك قشتالة بعض السلام والطمأنينة لمواطنيهم المسلمين حتى لا يثوروا أو يتجهوا للمملكة الأخيرة …. مملكة غرناطة .
توفى محمد بن الأحمر في التاسع والعشرين من جمادي الثانية سنة 671هـ – ديسمبر 1272 م وقد خلفه في الحكم أبنه – أبو عبدالله محمد الفقيه – والذي نظم أمور الملك وثبت أركان الدولة ..
فسطعت غرناطة بأرث أمة تآكلت أطرافها , واستطاعت أن تعيد لمحة من مجد غابر وأن تبرز بجوار شقيقتها في الضفة الأخرى مملكة بني مرين … الذي قال فيهم – الفقيه ابن الأحمر – :
مرين جنود الله أكبر عصبة … فهم في بني أعصارهم كالمواسم
مشنفة أسماعهم لمدائح … مسورة إيمانهم بالصوارم
وكانت تلك الأبيات ضمن رسالة أرسلها إلى بني مرين , يناشدهم الغوث والمدد في حربه ضد قشتالة التى تربصت به بعد موت أبيه , وهنا تجلى دور المغرب التاريخي فى الدفاع عن الأندلس .
يوم الدونونية
- معركة الدونونية
ما أن استقر ألفونسو العاشر على عرش قشتالة حتى نقض العهود المبرمة بين قشتالة و غرناطة , فجهز جيشا ضخما يقارب التسعين ألفا , عازماً أن يضم غرناطة إلى مملكته , فجعل على رأس الجيش صهره الدون ” نينو دي لارا ” القائد الفذ …
ربض جيش قشتالة في انتظار اللحظة الحاسمة للتحرك صوب غرناطة , ولكن فى الجانب الآخر كانت سفن بني مرين تعبر إلى الجزيرة الخضراء لتعيد مشهد عبور المرابطين ومن بعدهم الموحدين … ولكن هذه المرة بقيادة المنصور أبي يوسف المريني الذي طلب من ” الفقيه ابن الأحمر ” أن يتنازل عن بعض الحصون على الساحل حتى يتسنى له نقل جنده بسهولة , وقد كان له ما أراد فنزل المنصور المريني إلى الأندلس وتوجه بجيشه ناحية الشمال , فقابلته فرق من بني أشقيولة أخوال الفقيه وأصهاره , فانضموا إلى الجيش المريني ولحق بهم ابن الأحمر ولكنه رجع خوفاً من أن ينقلبوا عليه فعاد إلى غرناطة ينتظر نتائج ما سيحدث ….
توغل المرينيون بقيادة المنصور أبي يوسف , في أراضي قشتالة التي كانت يوماً ملكا للمسلمين سار حتى – أبده – بالقرب من قرطبة , ينسف من يقابله ويهزم الجموع ويحصد الغنائم , وما بين النصر والنصر يعلو التكبير والتهليل , روح الجهاد والعزة عادت من جديد , رايات المسلمين رفعت مرة أخرى هناك على مشارف قرطبة , وحينما علم بقدوم جيش ” دون نينو ” عاد متراجعاً ليختار هو أرض المعركة فدخل مدينة إستجة وأمر بجمع الغنائم في الحصن ووضعها تحت حراسة خاصة حتى لا تعيق الرجال عن هدفهم …
في ظهيرة يوم التاسع من سبتمبر عام 1275 م – الخامس عشر من ربيع الأول 674هـ … ألتقى الجمعان جنوب غرب قرطبة … فوقف ابو يوسف أمام جنده قائلاً :
ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنَّ الجنَّة تحت ظلال السيوف فمَنْ مات منكم مات شهيدًا، ومن عاش رجع إلى أهله سالمًا غانمًا مأجورًا حميدًا، فـ(اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون).
- معركة الدونونية
وما أن بدأت المعركة حتى أرتفع الصليل وصهيل الجياد وأخذت صيحات التكبير ترتفع وكذا صراخ القشتاليين , فكان يوماً من أيام الله أنتصر المسلمون بقيادة المنصور المريني و ابن أشقليولة الأندلسي … أنقشع غبار المعركة ليظهر بين جثث القتلى قائد جيش قشتالة ” دون نينو ” الذي سميت المعركة بأسمة كما ينطقه المسلمون – دونونية – , كانت الهزيمة موجعه لقشتالة , فقد لاح في الأفق الزلاقة و الأرك , فتلك المعركة كانت أول نصر عظيم بعد موقعة العقاب التي على أثرها تهاوت قواعد الأندلس ..
ما بعد النصر
” وما النصر إلا من عند الله “
جيش لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل … يهزم ما يقارب التسعين ألفا فيقتل قائدهم ويقتل الآلاف ويأسر ما يأسر … ويحظى بغنائم لا حصر لها … كان للمعركة صدى في غرناطة وكل انحاء الأندلس , فما لبث المنصور أن أرسل إلى غرناطة رأس ” الدون نينو ” ليزف النصر إلى الفقيه ابن الأحمر , فقيل أنه طيب الرأس ودثره بالحرير وأرسله إلى ملك قشتالة يتودد إليه ويصانعه , وأرسل برسالة يقول فيها أنه لم يشارك في تلك المعركة وان لا علاقة له ببني مرين ..
أما ابو يوسف المرينى فلبث قليلاً فى الجزيرة الخضراء قسم الغنائم وأعاد ترتيب الجيوش , وأنطلق إلى اشبيلية , كان ينوى إعادة الأندلس لأصحابها , كان يحلم بمجد موسى وطارق وابن تاشفين والمنصور الموحدي , دخل إلى احواز أشبيلة فاغلقت المدينة أبوابها , فسار إلى شريش وأقام حصاره عليها , فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها ومعهم بعد المسلمون من أهل المدينة فى طلب الصلح فمنحهم إياه , وعادت المدينة لطوع المسلمين مرة أخرى وعاد هو إلى الجزيرة الخضراء مرة أخرى لتنظيم شئونه وما لبث أن عبر البحر إلى العدوة المغربية في أواخر شهر رجب من العام 674 هـ … حاملاً النصر والشرف والمكانة بعد خمسة أشهر قضاها في الأندلس منتصراً غانماً ….
وهناك في الحمراء في قاعة الملك جلس ” الفقيه ابن الأحمر ” تنتابه هواجس المرابطين , يبدو ان طيف ابن عباد لاح في الأفق , أو حلم يوماً بـهَصور اسمه ابن تاشفين , وأرتعب كلما رأى ملثما … و رغم أنه أرسل للسلطان المنصور رسائل ود وقوبل بمثلها , إلا أنه خاف أن تنتهي به الحياة مقتولاً أو منفيا في صحراء العدوة .
فبعد وفاة صهره من بني أشقليولة حاول ” ابن الأحمر ” الإستيلاء على مالقة عنوه ليبسط سلطانة ويقطع أواصر الود مع ” المنصور المريني ” ولكن حملته العسكرية فشلت وعاد خائباً إلى غرناطة , ليفاجىء بأن المنصور المريني نزل إلى مالقة بجشيه واحتفل به الناس وسار إلى أراضي النصارى وسلب وغنم , فأثار ذلك حفيظته , فأرسل إلى قشتاله يطلب ودها ومهادنتها واستنصارها على السلطان المريني , ونزلت قوات النصارى لأول مرة بالجزيرة الخضراء , فعبر لهم السلطان ” المنصور أبو يوسف المريني ” وهزمهم واستولى على سفنهم , وفي تلك الأثناء كانت قشتالة تحاصر غرناطة فردهم ” ابن الاحمر ” منتصراً , وطلب ود ابي يوسف المريني مرة أخرى , وقد لاقى هذا الأخير الأمر برحابة فمن صالحهما أن يتحدا ضد قشتالة ….
خلال سنوات سطعت شمس بني مرين كقوة إقليمية وريثة المرابطين والموحدين … وزادت علاقتهم بالأندلس وشئونها وينعكس عليها ما يحدث في قشتالة , فألفونسوا العاشر الملقب بـ ( الحكيم ) … خسر عرشه بانقلاب ابنه الشاب سانشو , فلجأ الأب إلى المنصور أبي يوسف طالباً النجدة , فما كان من ابي يوسف المريني إلا أن عبر البحر رافعاً رايات المسلمين نحو قرطبة فحاصرها ثم أكمل المسير إلى طليطلة وقرر مواجهة سانشو فتوجه لمحاصرة ” مجريط – مدريد ” محملاً بالغنائم , ولكنه بلغه أن – ابن الأحمر – هاجم الجزيرة الخضراء والمنكب حيث سفنه , ففك الحصار عائداً إلى غرناطة ….. ولكن ابن الأحمر خرج إلى استقباله محاولاً درء الفتنة التي تحدث من صراعهما وتربص قشتالة بهما , فتفاهما على الود … وعاد المنصور إلى قشتالة غازياً يعيث فيها ويبعث روح العزة في نفوس المدجنين … يمنحهم أملا في أن رايتهم ستأتي مجدداً ….
يتبع
————————–
المصادر
نفح الطيب : المقري
دولة الإسلام فى الأندلس : محمد عبد الله عنان
الإحاطة في أخبار غرناطة : لسان الدين الخطيب
تاريخ ابن خلدون