عندما حطم كارلوس الخامس رواقاً بالحمراء

عندما حطم كارلوس الخامس رواقاً بالحمراء

سلَّموني خريطة في أول الزيارة. شاركتني البحث عن الجمال في كبد الحمراء. البحث عن مناجم الأحلام في القصر و الأبراج والممرات. وعن المعالم ذات العينين العسليتين، الشوكتين. احتمت جثّة رطبة بحقيبتي، وبين أناملي. استأنَسَت بنبضي وشاركتني سواد قهوة الحمراء، ولم تشاركني المرارة!.

 

عندما يزور السائح غرناطة سيفكر في الحمراء، في جنة العريف، في مسلمي الأندلس، في طابع المدينة التاريخي، في المساجد، في البيازين و أزقته المزهرة الضيقة. ولكن، وما أن تزور مجمع الحمراء السياحي حتى تتفاجأ ببناية تاريخية على الطراز الروماني. بناية تتناقض معماريا ًمع الحمراء ومع هيئة المدينة بشكل عام ألا وهي قصر كارلوس الخامس. يحكي القصر الجريمة التي اقترفها كارلوس بحق الحمراء إذ حطم جزءاً منها ليشيد مكانه هذا القصر!.

تعود أحداث قصة الهدم إلى فترة زواج الإمبراطور كارلوس بملكة البرتغال إيزابيل أفيس حيث قررا الإقامة بالحمراء في فترة ما بعد حفل الزفاف. أدى اعجابهما بالحمراء إلى إصدار قرار بتحطيم الرواق الواقع بالممر الجنوبي لفناء الريحان وتشييد قصر كارلوس الخامس في مكانه! أمر الإمبراطور ببناء القصر إلى جوار الحمراء حتى يستمتع بعجائبها. وكُلف المهندس “بيدرو ماتشوكا” بالمهمة.

 

بدأت عملية تحطيم رواق الحمراء وبناء قصر كارلوس سنة 1527. وشيد القصر بالمكان المقابل لبرج قُمارش في قلب الحمراء (بالشق الخلفي لفناء الريحان) وإن كان ذلك على حساب تحطيم جزء من الحمراء! لم يثر هذا الهدم المثير للجدل في تلك الحقبة أي تنديد أو استنكار. لم يثر حفيظة أية سلطة وذلك لأن تهديم الصروح والقصور من طرف المستعمر المنتصر كان أمراً اعتيادياً. بل ويمضي البعض بالإستدلال بحادثة هدم رواق الحمراء للبرهنة على الحس الفني الراقي للمستعمر كارلوس الخامس! فحسب قولهم، هو لم يحطمها بالكامل بل حطم فقط جزءا منها! فقط الجزء الممتد بالشق الخلفي لفناء الريحان ليشيد في مكانه قصراً يسمح له بتأمل جمالها!.

 

يذهب بعض الباحثين إلى الإقرار بأن ما حطمه كارلوس الخامس لم يكن فقط رواقاً تابعاً للحمراء وإنما القصر الشتوي للحمراء. ولكن تبقى رواية الرواق هي الأكثر مصداقية في غياب أي دليل يبرهن على وجود ذلك القصر الشتوي.

 

يصعب على الزائر المرور من حِس الحمراء الرقيق والمرهف ليجد نفسه مباشرة في قصر كارلوس الرمادي ذي الأعمدة الضخمة الباردة. صعب. ولكنني مررتُ من هناك. تجولتُ به. ولم أقتل نفسي. ولم أنهار. كنتُ فقط أختبأ بين الحين والآخر وراء خريطتي. لتَلعَق من دم وجهي حسائها دون أن أرُدها. وأنشب في أحشاء حيطانه أظافري القصيرة. تمنيت لو كانت خلال تلك الزيارة أطول. وتمنيت لو أسكتُّ أصوات المرشدين هناك ليومين. ليكفوا عن التغني بالقصر الضريح إلى أن أرحل.

 

يبدوا أن الإسبان فقهوا لبرودة القصر لذلك أضفوا عليه بعض الجمال الإسلامي. حيث خصص الطابق السفلي من قصر كارلوس الخامس لمتحف الحمراء. ويضم المتحف كنوزاً إسلامية أندلسية نادرة. أما الطابق العلوي للقصر فقد أصبح منذ سنة 1958 مقراً لمتحف غرناطة للفنون الجميلة. متحف متخصص في عرض لوحات رسم مابين القرنين الخامس عشر والعشرين. أغلب اللوحات تستعرض مواضيع دينية. وأخرى تنبش قبر التاريخ لتضاجع جثمان أساطيره الزائفة. ولعل أهم لوحة قد تستوقفك لوحة “خروج أسرة أبو عبديل من الحمراء” للرسام مانويل غوميز مورينو”.

ضيعتُ خريطتي خلال زيارتي للقصر. ضيعتُ بصمات الذكرى فيها وفي. ضيَّعتُ شوقي المشبوه إلى رواق الحمراء المكسور. حدثتني عن جريمة كارلوس بالحمراء ورحَلَت لتحكي لغيري خرافة القزم الأشقر الذي (أضفى جمالاً) على الحمراء!.

 

سميرة فخرالدين

 

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *