بقلم : أميرة قاسيمي
زرتُ أرض الأندلس، و أنا مقيمةٌ، عبر سطور “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” لأحمد المقري التلمساني – أحد أبرز المؤرخين المسلمين في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين- فأصابتني الدهشة و سُحرت بحضارةٍ أقلُّ ما يقال عنها أنّها سبقت عصرها، و هِمتُ بمدنٍ سلبت أذهان زوّارها و استعبدت قلوبهم، و قصّة شعبٍ أبدع فأذهل، و أجاد و جاد.
كلّ الأندلس، بدءًا من عناوينها العريضة – معالم حضارتها و مظاهر ازدهارها و أبرز شعرائها و أعظم مفكّريها و أجود مطربيها – إلى أدقّ تفاصيلها كفيلةٌ بأن تقود المّطلع عليها إلى الهيام..
لكنّني –صدقا- مهما قرأتُ و شاهدتُ و عرفتُ من أخبارها، لم يفعل بي صانعٌ و لا مصنوعٌ من الأندلس ما فعله بي “صقر قريش”، مؤسس الدولة الأموية على أرض الأندلس، الرجل الذي أوقد مشعل حضارتها و شقّ طريق مجدها: أبو المطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي، المشهور بعبد الرحمن الداخل ، لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس ،و هو الذي مدحه العدوّ قبل الصديق، فينقل لنا “المقرّي” في كتابه ما شهد به أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي الذي لقّب عبد الرحمن بصقر قريش، و الذي قال: “لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه و قوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذّ في جميع شؤونه، و عدمه لأهله و نشبه، و تسلّيه عن جميع ذلك ببعد مَرقى همته، و مضاء عزيمته، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، و قمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، و استمال قلوب رعيتها بقضية سياسته، حتى انقاد له عصيّهم، و ذلّ له أبيّهم ، فاستولى فيها على أريكته، ملكا على قطعته، قاهرا لأعدائه، حاميا لذماره، مانعا لحوزته، خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه، إن ذلك لَهُو الفتى كلُّ الفتى لا يكذب مادحه”.
وُلد عبد الرحمن بن معاوية سنة 113 هـ في خلافة جده هشام بن عبد الملك في بلاد الشام. توفي أبوه شاباً عام 118 هـ فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق حيث كفله وإخوتَه جدُّه هشام.
كان عبد الرحمن لا يزال شابّا عشرينيّا حين انقلب بنو العبّاس على الأمويين، و غلبوهم على الخلافة و لاحقوهم و قتّلوا كلّ من وصلت إليه أيديهم منهم ، و لكنّه تمكّن من الإفلات من بطش العبّاسيين، و فرّ باتجاه الغرب، يقول المقرّي: ” كان قومه يتحيّنون له مُلكا بالمغرب، و يرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك، و كان هو قد سمعها منه مشافهة ، فكان يحدّث نفسه بذلك.”
اتجه عبد الرحمن إلى المغرب و نزل على أخواله “نَفْزَة” من برابرة طرابلس، و بعث مولى له يسمّى “بدر” إلى أهل الأندلس من أنصار الأمويين ليستنصرهم، فأجابوه. و رجع بدرٌ إلى عبد الرحمن بالخبر، فعبر البحر إلى جزيرة أيبيريا سنة 138 هـ في خلافة أبي جعفر المنصور، و نزل بساحل المنكب، و أتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه، و كلّما تنقّل عبد الرحمن من منطقة لأخرى بايعه أهلها حتى وصل إلى قرطبة و اجتمعت إليه اليمنية. يقول المقرّي –بتصرّف- : “و نُمِي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، و كان غازيًا بجلّيقية ، فانفضّ عسكره ، و رجع إلى قرطبة ، و أشار عليه وزيره الصُّميل بن حاتم بالتلطف له، و المكر به، لكونه صغير السن، حديث عهد بنعمة ، فلم يتم ما أراده، و ارتحل عبد الرحمن من المنكب، فاحتلّ بمالقة فبايعه جندها، ثم برُندة ، ثم بشريش كذلك، ثم بإشبيلية، فتوافدت إليه جنود الأمصار ، و تسايلت المضرية إليه، حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهرية و القيسية لمكان الصميل منه، زَحف حينئذ عبد الرحمن الداخل، و ناجزهم الحرب بظاهر قرطبة، فانكشف يوسف ، و نجا إلى غرناطة فتحصّن بها، و اتّبعه الأمير عبد الرحمن فنازله، ثم رغب إليه يوسف في الصلح، فعقد له على أن يسكن قرطبة، ثم أقفله معه، ثم نقض يوسف عهده ، و خرج سنة 141 هـ ، و لحق بطُليطلة، و اجتمع إليه زهاء عشرين ألفاً من البربر و تناجز الفريقان، فكانت الدائرة على يوسف ، و أبعد المفرّ، و اغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة ، و احتزّ رأسه، و تقدّم به إلى الأمير عبد الرحمن.”
صار عبد الرّحمن أميرًا للأندلس، و استقرّ بقرطبة ، و بنى بها المسجد الجامع و القصر العظيمين، و وفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق، و استعاد مجد الأمويين الذي سُلِب، و سلطانهم الذي نُهِب.
قال ابن حيان: “ألفى الداخلُ الأندلسَ ثغرا قاصيا غُفلاً من حِلية المُلك عاطلاً، فأرهف أهلها بالطاعة السلطانية، و حنّكهم بالسيرة الملوكية ، و أخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليل المروءة، و أقامهم على الطريقة، و بدأ فدوّن الدواوين، و رفع الأواوين، و فرض الأعطية، و عقد الألوية، و جنّد الأجناد، و رفع العماد، و أوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، و أخذ للسلطان عدّته، فاعترف له بذلك أكابر الملوك و حذروا جانبه، و تحاموا حَوْزته، و لم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس، و استقلّ له الأمر فيها.” يقول المقرّي: “و كان الداخل يقعد للعامة ، و يسمع منهم، و ينظر بنفسه فيما بينهم، و يتوصّل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقّة، و كان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، و من وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.”
دخل عبد الرحمن الأندلسَ فكان لها ضياءً و نورًا، و بدايةً لعصر بهيجٍ زاخرٍ بالعطاء و الرّخاء، عامرٍ بالخيرات، فأخرجت أرض الأندلس الخصبةُ السخيةُ من جوفها الثمار و اكتست بالورد و الأنهار و تزيّنت للعالمين فسلبت العقول و الأبصار.
و لكن رغم العزّ الذي بلغته الأندلس في عهد الأمير الداخل، إلا أنّ الحُبّ –كما يُقال- أبدًا للحبيب الأوّل، فلازالت كتب الشعر تحفظ أبيات الحنين في قصيدة “النخلة” ، لنخلةٍ جاء بها من المشرق ليغرسها في قصر الرصافة الذي بناه في الأندلس– كرصافة جدّه هشام ابن عبد الملك الذي بناه في الشام – فقال:
تبدَّتْ لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ تناءتْ بأرض الغربِ عن بلدِ النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول انثنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يسحُّ ويستمري السماكين بالوبل
غير أنّ المنيّة وافت أمير الأندلس عبد الرحمن الداخل قبل وصال الشام، فقد توفي في 24 ربيع الآخر عام 172 هـ، وترك من الولد أحد عشر ولدًا و تسع بنات. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله، وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده.