مدينة شنترة
لا يزال أقصى الغرب الأندلسي مجهولا بالنّسبة للكثير رغم أنّه كان لا يقلّ أهمّية عن باقي المناطق الأندلسية التّابعة للحكم الإسلامي خاصّة و أنّه كان بعيدًا عن مراكز الحكم و قد كان يتمتّع بنوع من الاستقلالية في التسيير وبعناية خاصة من السلطة المركزية لوقوعه قرب معاقل العدوّ وانفتاحه على المحيط، ما جعله عرضة لهجومات الشماليين و الإيبريين على حدٍّ سواء.
شنترة من بين المدن الأندلسية الغربية الواقعة قرب المحيط الأطلسي اسمها اللاتيني “sintra” وهي الآن بلدية صغيرة يقطنها حوالي 30 ألف ساكن ويأتي أغلب دخلها من السّياحة. يصفها “الحميري” في كتابه “الروض المعطار” فيقول:
شنترة من مدائن الأشبونة في الأندلس على مقربة من البحر ويغشاها ضباب دائم لا ينقطع، وهي صحيحة الهوى، تطول أعمار أهلها، ولها حصنان في غاية المنعة، وبينها والبحر قدر ميل، وهناك نهر ماؤه يصب في البحر، ومنه شرب جناتهم؛ وهي أكثر البلاد تفاحًا، ويجل عندهم حتى يبلغ دورها أربعة أشبار، وكذلك الكمثرى، وبجبل شنترة ينبت البنفسج بطبعه، ويخرج من شنترة عنبر جيد
- مدينة شنترة
انطلقت بسيارتي من الأشبونة قاصدًا شنترة عبر طريق بحري جميل فهي لا تبعد عن العاصمة الأشبونة إلا حوالي 20 كم، وصلتها مساءًا و قد غشّاها الضّباب و كأنه أراد أن يصدق الحميري في وصفه، وجدتها مدينة صغيرة بها أربعة شوارع تحفظ الطّابع الأندلسي أمّا باقي البنيان فهو ذو طابع أروبي كولنيالي و الظاّهر أنّ نهرها جفّ أو اضمحلّ ماؤه فقد بُني في مجراه منازل و استراحات.
ذهبت إلى شنترة بعد أن قرأت عن تاريخها و كان مقصدي حصنيها اللذان ذكرهما الحميري، ثمّ قصر طائفة بطليوس الذي حوّل إلى متحف بعد أن طرأت عليه تغييرات دخيلة. كانت إقامتي في فندق منزلّي جميل وكان لي مع مالكه حادثة طريفة.
- حديقة فندق إقامتي
القصر الملكي
خرجت في اليوم التالي باكرًا بعد أن تناولت إفطاري في جوّ هادئ ثم خرجت إلى وسط مدينة شنترة متتبعًا أثر الأندلس المفقود عساني أجد ما يُذكّرني فأتأسّى به، لكننّي لم أجد لا نهرها و لا تُفّاحها ذي الأربعة أشبار فالظاهر أنّ المدينة التي تقع في منطقة جوية رطبة كانت فعلًا تنتج تفاحًا بهذا الحجم (1)، ثم ّرحت سائحًا في ساحتها المركزية أتطلّع إلى نظافتها الملحوظة و إلى جمال بناءها القديم وحسن ترصيف طرقاتها بالحجارة البيضاء.
- القصر الملكي
دخلت القصر الذي يتوسط السّاحة وقد بُني على بقايا قصر ولاة بني الأفطس حكّام بطليوس و اتّخذ في بنائه الشّكل الهندسي الأندلسي كما يظهر في أقواس النّوافذ واستعمال الزّليج والزّخارف الهندسية الداخلية وقد أقام فيه أجيال عديدة من الملوك البرتغاليين. وجدته قصرًا أوروبيًا من العصور الوسطى ولا يدلّ على أندلسيته إلا تلك التفاصيل الهندسية الواضحة في نوافذه وسقفه وبعض غرفه، كان القصر قصّة تروي التاريخ ومصدرًا للمعلومات الهامة فقد علمتُ أنّ القصر قد رُمّم في فترة حكم الملك جُوَاوْ الأول بين عامي 1356م و1433م، كما عرفتُ أنّ السّقف الواقع في غرفة تعبّد الملوك البرتغاليين قد شارك البنّاؤون الموريسكيون في بنائه مما يدل على بقاء الأندلسيين الموريسكيين على الأقل مائتي عام بعد سقوط شنترة.
انتهت جولة ذلك اليوم بعد وجبة الغداء فقد كنّا في أوائل كانون الثاني/ يناير و كان النّهار قصيرًا حيث حلّ المغرب بعد سويعة من انتهائي من الغداء.
- زليج أندلسي يزيّن داخل القصر
- زخارف أندلسية فوق أقواس النّوافذ
- زخارف من الفنّ المدجّن في كنيسة القصر الخاصّة
حصن العرب
استيقظت في اليوم الثاني و أنا عازم على زيارة ذلك الحصن الّذي وصفه “الحميري”. ركبت سيارتي و قصدت الحصن الذي كانت كلّ الإشارات تدلّ على طريقه، سلكت طريقًا جبليًا معبّدًا ولكنّه كان كثير الالتواء وسط أشجار الأرز العملاقة ورائحة الأرض المرطبّة بالنّدى اللّيلي. مائتان و خمسون متراً بقيت للوصول إلى الحصن لكن بعد أن قطعت أشواطًا طويلة وسط مرتفع شاهق، توقّفت آلة التصوير لنسياني تعبئة البطّارية و لكن هاتفي لم يخذلني فالتقطت صورًا للمكان.
حصن العرب أو حصن الموريسكيين كما يسمى في البرتغال هو حصنٌ يقع فوق جبل يعلو مدينة شنترة ب500 متر بناه المسلمون بين القرن الثامن والقرن التاسع للميلاد على أنقاض مركز مراقبة روماني وقدكان الحصن يسمح للمسلمين بمراقبة كل حركة خارج المدينة حيث أنّه يمنح رِؤية دائرية لأفق يمتد على عشرات الكيلومترات، سلّمه المتوكّل زعيم طائفة بني الأفطس حكّام بطليوس للملك البرتغالي ألفونسو الرابع طلبا للحماية من المرابطين سنة 1093م/ 486ه. وقد كان المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين قد قرّروا دخول الأندلس وتوحيدها تحت راية واحدة بعد أن فشلت المساعي السّابقة في توحيد كلمة ملوك الطّوائف و عد كثرة تحالفاتهم مع الملوك النصارى ضد مصالح الأندلس و المرابطين في المغرب. استرجع المرابطون الحصن سنة 1095م 488ه و بقي في حوزة المسلمين حتى سُّلم الحصنُ والمدينة بعد استسلام مدينتي الأشبونة وشنترين تحت هجمات التحالف الصليبي بين البرتغاليين الانجليز والهولنديين بقيادة ألفونسو الأول ملك البرتغال وكان ذلك سنة 1147م/ 541ه.
وجدت حصنًا عظيمًا, محيطه 450 متراً ومساحته َ12000 مترًا مربعًا، أبراجه جدّ محصنة وأسواره مبنية بمتانة، عجبت كيف سلّمه المقاومون وباقي المدن وأدركت أننا حقًا لا نهزم إلا إذا أردنا ذلك.
- حصن شنترة
الحصن عبارة عن سورين مزدوجين تتخللهما أبراج ويقف الشخص فوقهما بسهولة وهو يشبه لحد كبير سور الصين العظيم بشكل مصغّر. وسط الحصن توجد آبار ماء أكبرها الجبُّ الأرضي و هو بناءٌ ضخمٌ يقع سقفه فوق سطح الأرض وتترك له فتحة تسمح بدخول مياه الأمطار، التي تُنقل بقنوات فخارية عند الحاجة لاستعمالها، ويضمن الحصن بهذا الإنجاز الفنّي استقلالية تامة من حاجته في الماء الشّروب لمدّة طويلة وقد صنّفت اليونسكو جّب شنترة من بين التراث الحضاري للإنسانية، كما توجد بقايا غرف الجنود ومطاميرٌ لحفظ الأطعمة وبقايا كنيسة بنيت بعد سقوط الحصن في يد الصليبيين.
قضيتُ جلَّ يومي في الحصن وقد كنت أقف فوق قمم الأبراج وأنا أخالني جندياً أندلسيًا، أردت أن أعيش إحساسه،أن أرى بعينيه، أن أسمع بأذنيه، أن أعرف معنى الرّباط وحماية الثّغر.
- السّور المزدوج و باب الخيانة…أسفل الصّخر من حصن شنترة يوجد ثغرة في السّور تسمح بخروج القاطنين بالحصن في حال حصار أو هجوم, هذه المنافذ ليست نادرة الوجود في الحصون الإسلامية لكنّها للأسف أدّت دورا للخيانة أكثر من دورها للنّجاة, فكم من قائد خائن و كم من متآمر من داخل الحصن جعل الفتحة ممرّا للعدوّ …
- الأبراج في القصر تختلف بين أسطوانية و مكعبية الشكل
- مجال الرؤية من فوق الحصن يمتد إلى عشرات الأميال
انتهت الرحلة
لولا الحميري لما سمعت عن هذه البلدة الأندلسية الرائعة ولا كنت زرتها، وهذا دليلٌ على جهلنا الكبير بتاريخنا وماضي حواضرنا.
لممت حوائجي بعد قضاء اللّيلة في الفندق و قصدت البناية المركزية للنزل حيث بهو الاستقبال وقاعة واسعة للمطالعة وقاعة أخرى خاصة بوجبة الفطور، الكلّ في بناءٍ بهندسة العصور الوسطى الأوروبية مع تمازج الزّليج الأندلسي. تناولت فطوري ثم قصدت قاعة المطالعة منتظرًا قدوم صاحب النزل لأدفع له ثمن المبيت وبدأت اتمعّن في تلك الكتب الّتي لم تترك مجالًا إلّا وغطته، وجلّها باللغة البرتغالية التي لا أفقهها، تساءلت عن دور هذه المكتبة في نزل منعزلٍ في مدينةٍ لم يسمع الكثير حتّى عن وجودها، وقد جائني الرّد سربعًا من صاحب النّزل الّذي دخل القاعة فرحّب بي، ثمّ سألني إن كانت المكتبة أعجبتني.
سألني بلغة برتغالية، وأبت إسبانيتي البسيطة أن تمنحني فرصةً لفهم مغزى السّؤال فأجبته قبل أن ندخل في حوار طويل بحضور أمّه المسنّة، كان ذاك الحوار جوابًا عن دور المكتبة فالرّجل مطّلعٌ على كلّ ما فيها، راح يحدثني عن بلدي الجزائر وعن رئيسه ثمّ عن تاريخ الاستعمار الفرنسي، ثم عن مسقط رأسي قسنطينة (وأغلبكم لم يسمع بها إلا من قرأ لأحلام مستغانمي أو مالك بن نبي) ثم دخلنا في نقاش حول الإسلام و حول رسول الله صلى الله عليه و سلّم، وهنا حقّاً أدهشني حجم معرفته ثمّ أوقفتني عبارة قالها، ولم أشأ أن أواصل الحديث بعدها هي عبارة أوجزت كلّ ما قيل. قال لي: “النبي محمد أنبل شخص عرفته البشرّية وأرى أنّ الإسلام سيكون الدّين الأول في الأرض دون منازع”. شهادة من ملحدٍ دوّنتها كي لا أنساها.
تركت النّزل و فخر الإسلام يغمرني و أخذتُ طريق العودة و أنا أتسائل: “كيف حاورت شخصًا بلغة لا أفهمها ساعة من الزّمن دون وعي؟”.
بحثت عن بعض أعلام شنترة في بعض المراجع فوجدت هذا الاسم:
سلمة بن أمية بن وديع التجيبي: الإمام ُ وأصله من شنترة من الغرب. سكن إشبيلية، يكنّى: أبا القاسم. رحل إلى المشرق سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. ولقي أبا محمد بن أبي زيد، وأبا الطيب بن غلبون وابنه طاهرا، وابن الأذفوي، والسامري وغيرهم. وأسَرَته الروم في منصرفه من المشرق فبقي عندهم إلى أن أنقذه الله بعد سنين. وكان ثقة فاضلًا. (كتاب الصلة لابن باشكوال).
(1) من البراهين على صحّة هذا الزّعم هذا النّص :
“أَخْبَرَنِي أَبُو الْقَاسِمِ سُعَيْدَانُ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّقَّاصُ، بِالْكُوفَةِ، أَنَا أبو عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَوِيُّ…. أَنْشَدَنِي أَبُو الرَّيَّانِ سَلْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ فُهَيْدٍ الْعَدَوِيُّ، بِعَرَابَانَ مِنْ مُدُنِ الْخَابُورِ، أَنْشَدَنِي أَبُو الْمُهَذَّبِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الرُّؤوسِ السُّرُوجِيُّ لِنَفْسِهِ:
يَا قَمَرًا تَنْضُبُ أَجْفَانُهُ لِمَنْ رَآهُ شَرَكَ الْحُبِّ
وَشَابَ أَرْأَى الظُّلْمِ ظُلْمًا لِمَنْ يَرْشِفُهُ بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ
حَلَلْتَ قَلْبِي ثُمَّ عَذَّبْتَهُ عَلَيْكَ خَوْفِي لَا عَلَى قَلْبِي
سَلْمَانُ هَذَا يُعْرَفُ بِالدَّبَيْجَلِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ. سمعت الْفَقِيهَ أَبَا الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَسَدٍ الْإِشْبِيلِيَّ الْأَنْدَلُسِيَّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ لُؤْلُؤَةَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، يَقُولُ: رَأَيْتُ عِنْدَنَا بِالْأَنْدَلُسِ تُفَّاحًا أَحْمَرَ، دَوْرُ كُلِّ تُفَّاحَةٍ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ وَثُلُثِ، جُلِبَ إِلَيْنَا مِنْ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا شَنْتَرَةُ مِنْ مُدُنِ الْأَنْدَلُسِ أَيْضًا، قَالَ: وَهَذَا يَعْلَمُهُ أَهْلُ نَاحِيَتِنَا.فَسَأَلْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِيِّينَ سِوَاهُ، فَصَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ.أَبُو الرَّبِيعِ هَذَا فَقِيهٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمُقْرِئٌ مُجَوِّدٌ حَافِظٌ لِلْقِرَاءَاتِ، جَاءَنِي بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ نَاحِيَتِهِ بِالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ، وَسَمِعَ مِنِّي أَجْزَاءٌ وَنَسَخَهَا، منها كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، لابن خلاد الرامهرمزي.”
(معجم السفر للسلفي)