“مَضت قرونٌ خمسةُ.. يا غاليه …كأننا.. نخرجُ هذا اليومَ من إسبانية”
إنها السنة الثالثة التي سأقوم فيها بالتدوين*، يوم ذكرى نكبة الأندلس، ويوم ولد وطَن.
عليّ هذه المرّة أن أتغلب على نفسي، لسببين، أولهما أنني سأصف اليوم جرح الأندلس بعدما رأيته، ومشيت عليه، شممت دمائه وقبّلت أوجاعه. والثاني لأن طفلي وطن، كبُر ودخل عامه الثالث. ولأنني أبحث عن موافقة دخول أبدي إلى الأندلس، أريد أن أهاجر إلى هناك، وأن أعيش بإشبيلية حتى نهاية حياتي. سأهاجر الى يتم آخر، فالذي يولد في وطن يتيم مُحتل، يصبح كالرحّال العاشق الهائم، يبحث عن أي وجع، ليسكنه!
على مرّ ثلاثة أعوام، عندما أصل للحظة التي سأدوّن فيها مشاعري المتناقضة، أخاف، أخاف أن لا أفي مشاعري حقّها بالكلمات، أخاف أن تتشابك الحروف أمام هول الفجيعة وألمها.
دائمًا تساءلت، هل الأندلس حقٌّ فعلًا؟ لماذا تكون نكبةً وأصحابها دخلوا إليها فاتحين ولم يكونوا أهل الأرض الأصليين؟ ودائمًا قرأت الأجوبة في كتب التاريخ وتلقنتها من حروف المؤرخّين، حتى زرت الأندلس، ورأيت بأمّ العين أن الأندلس حق!
نعم، لي في غرناطة أكثر مما لهم، لن أنسى ذلك اليوم، عندما زرت الحمراء وطردت من بابها لأنّ الأمطار منعت منّي الوصول في وقت تذكرتي، لتأتي المُنظمّة التي تقف على الباب وتمنعني من الدخول، تطردني من بيتي ومكاني، كم اردت في تلك اللحظة أن أصرخ في وجهها “لا يحقّ لكِ طردي من بيتي، هذا الإرث لي، هذا مجد أجدادي، أبو عبد الله كان جدّي، كان جدّي”، لكنني كفكفت دموع اليُتم والحزن، حملت ضعفي واشتريت تذكرة جديدة وانتظرت ساعة السماح لي بالدخول. لم تكن مفارقة جديدة بالنسبة لي، فالقدس لي أيضًا وعكّا لي، يافا لي والشيخ مونس لي، أم رشرش لي وخبيّزة لي، الكرمل لي وطبريّا لي، سماء أم خالد لي وبحر حيفا لي، ومع ذلك أروح وأرجع غريبة إليهنّ، بتذكرة دخول وخروج تُدعى بطاقة هويّة.
أنا ابنة النكبتيين، ولأمّة أنا منها… ألف نكبة. نكبة تُدعي حلب وحمص ودرعا وحماة وإدلب ودمشق، نكبة تسمّى القاهرة، وأخرى تسمى تونس، وواحدة تسمّى ليبيا وواحدة اسمها اليمن. أنا يتيم الهويّة، يتيم القوميّة والدين. أنا رقم في عالم بائس ظالم، يسحق أجساد الأطفال ويبني أبراجه على جثثهم. أنا من يبحث عن عدل الله، وقوّة الله أمام فساد عباده.
لا أعلم، عندما زرت الأندلس، اجتاحني شعور رهيب، شعرت أنني ابنة هذا المكان. لا، لا أتخيّل، مالقة أخت حيفا لها ذات الجبال والبحر، اشبيلية معشوقتي هي يافا فلهنّ نفس رائحة البرتقال، قرطبة وجامعها الذي ذكرني بالمسجد الأقصى اليتيم، وطليطلة هي القدس بتراص أبنيتها وطمسها وتهويدها، غرناطة ورُمانها هي هُنا…الأندلس هي فلسطين.
في مثل هذا اليوم قبل مئات السنين هُجر الآلاف وطردوا من منازلهم، حملوا الذل، تركوا البيت واحكموا اقفاله بمفاتيحهم، علّ اللقاء يكون قريبا. 523 سنة مضت، ولا البيوت بقيت، ولا اللقاء جاء. قصة فلسطين، هي قصّة أندلسيّة، تحمل ذات الأوجاع والأحزان، ألم الطرد والتهجير، ووجع الخذلان. ولكلتا القصتان رب واحد، رب حكمته جعلت عباده الذين رحلوا يملؤون كل زاوية، كل زقاق، كل جدار، كل حائط بجملة واحدة: “ولا غالبَ إلا الله”.
العبرة التي يعطينا الله إياها، أن وجهه الحق الباقي، واسمه الحي، وكل شيء سواه زائل لا محالة، ولا نصر من دونه ولا عزّ إلا من عنده. الأندلس لن تموت، سيرجع طارق بن زياد فاتحا، وسيعود عزّها ومجدها. لا محالة.
أخضر.. أبيض.. ولا غالبَ إلاّ الله!
* كتبته ” سجى عبد القادر أبو فنّه ” (فلسطينية من عرب الدّاخل)