سميرة فخرالدين
الصورة من قلعة عسكرية قديمة بمدينة أوستند Ostende البلجيكية، تُخصص هذه القاعة للتوثيق لإحدى الحلقات البشعة والدامية التي عرفتها المدينة ما بين 1601 و 1604 على يد الإمبراطورية الإسبانية. يتعلق الأمر بحصار مدينة أوستند Ostende . نظرا لقساوة الحصار وكثرة القوى المشاركة فيه ، ولكمية الدمار الهائل التي خلفها ولكثرة الضحايا ، أُطلِقَ عليه عدة تسميات ساخرة من بينها : المهرجان الكبير للموت ، المدرسة الحربية الأوروبية ، جامعة الحرب .
يعتبر حصار مدينة أوستند Ostende (1601-1604) -الواقعة حاليا في بلجيكا- إحدى الحلقات القاسية و البشعة التي عرفتها المدينة على مر العصور، وواحدة من أهم أحداث الحرب المعروفة باسم “حرب الثمانين عاما” أو “حرب الاستقلال الهولندية” (1568م–1648م) -حيث تمردت سبع عشرة محافظة ضد فيليب ملك إسبانيا رافضين سيادته على الأراضي الهولندية -. راح ضحية الحصار أكثر من 100.000 شخص من الطرفين, أي من كلا الخصمين المتعاركين:
– جيوش الإمبراطورية الإسبانية المهاجمة والتي أقامت الحصار ضد المدينة.
– والجيوش الهولندية المدافعة عن المدينة لصد الحصار الإسباني .
استمر الحصار لأكثر من ثلاث سنوات. قامت خلالها جيوش الإمبراطورية الإسبانية بمحاصرة المدينة، وتدميرها بالكامل ثم الإستيلاء عليها تحت قيادة Ambrosio Spinola أمبروزيو سبينولا سنة 1604.
دافع عن المدينة كل من “جمهورية هولندا” والتي عُرفت أيضا بجمهورية البلدان السبعة المنخفضة (بالهولندية:Republiek der Zeven Verenigde Nederlanden) أو “المقاطعات المتحدة”-هي جمهورية أوروبية سابقة استمرت بين عامي 1581 و1795 – بالإتحاد مع الجيوش الإنجليزية.
……….
السياق التاريخي
في 1568، في عهد فيليب الثاني، قامت هولندا – التي كانت خاضعة حينها لحكم الإمبراطورية الإسبانية- بثورة مسلحة ضد التاج الإسباني احتجاجا على الضرائب الدينية الكاثوليكية والأعباء الإقتصادية التي فرضتها الإمبراطورية. لذلك حاولت هولندا ، في سلسلة من المعارك، الحصول على الإستقلال و التخلص من الحكم الإسباني. والجدير بالذكر أن الإمبراطورية الإسبانية وإن مارست في تلك الحقبة سيطرة على المستوى العالمي، إلا أن ملكها التالي الإمبراطور فيليب Felipe III ونائبه Francisco de Sandoval ( دوق ليرما Duque de Lerma ) عانا من عدة ضغوط والتي تمثلت في:
– إفلاس الخزينة الملكية.
– الحرب ضد فرنسا والتي ستستمر لغاية 1598.
– الحرب ضد انجلترا التي أنهكت الأرمادا الإسبانية (بالإسبانية: Armada Española) أو أرمادا إنفينسيبلي (بالإسبانية: Armada Invencible) كان الإسم الذي أطلقه الملك Felipe II فيليب الثاني على أسطول كبير، تحت قيادة دوق مدينا سيدونا، تم تجميعه في 1588 لغزو إنجلترا خلال الحرب الأنجلو الأسبانية من 1585م-1604م.وقد اصطدم الأسطولان في بحر الشمال ولاقى الأسطول الإسباني خسائر فادحة قدرت بحوالي 50 سفينة بالمقارنة بسبع سفن فقط من الطرف الإنجليزي. تعتبر هذه الموقعة أكبر معركة حصلت بين الطرفين بالحرب الأنجلو-إسبانية.هزم الأسطول الإنجليزي الأرمادا، مما قلّل من هيبة إسبانيا (أقوى دولة بحرية في العالم آنذاك).
– الإصطدام بالعثمانيين في البحر الأبيض المتوسط
– حرب الثمانين عاما ضد ما سمي بالجمهورية الهولندية.
كل ذلك دفع الإمبراطورية الإسبانية إلى فرض ضرائب على مستعمراتها.
ولضمان ولاء الأراضي الهولندية للإمبراطورية الإسبانية سُلِّمَت الأراضي في تلك الفترة (1598)للأرشيدوق Alberto de Austria ألبرتو دي أوستريا و Isabel Clara Eugenia إزابيل كلارا إيوخينيا وهما صهر وشقيقة Felipe III فيليب الثالث. هكذا حكما هولندا مع ضمان تبعيتها للإمبراطورية الإسبانية.

ولضمان ولاء الأراضي الهولندية للإمبراطورية الإسبانية سُلِّمَت الأراضي في تلك الفترة (1598)للأرشيدوق Alberto de Austria ألبرتو دي أوستريا و Isabel Clara Eugenia إزابيل كلارا إيوخينيا وهما صهر وشقيقة Felipe III فيليب الثالث. هكذا حكما هولندا مع ضمان تبعيتها للإمبراطورية الإسبانية.
……….
الموقع الإستراتيجي لمدينة أوستند Ostende
شكلت المدينة بالنسبة للإسبان موقعا استراتيجيا. تتموقع بمنطقة الفلاندر الغربية (بالإنجليزية: West Flanders) وهي حاليا مقاطعة بلجيكية تقع شرق بلجيكا على ضفاف بحر الشمال -هو بحر يقع في شمال أوروبا بين النرويج والدنمارك من الشرق والمملكة المتحدة من الغرب وألمانيا وهولندا وبلجيكا من الجنوب-. اشتهرت المدينة منذ القدم بثرواتها السمكية، كما ضمت ميناءا عسكريا مهما. لذلك فاحتلال المدينة شكل قضية استراتيجية مهمة بالنسبة لجيوش الإمبراطورية الإسبانية.
……….
الحصار
أنهك الحصار قوى كل الجهات المشاركة. تميز ب:
– سلسلة من المعارك البرية والبحرية.
– هجوم واعتداءات.
– أعمال هندسة عسكرية : مجموع المهام الهندسية التي تُؤَمِّنُ العبور والتحرك بسهولة في أراضي المعارك.
– ابتكارات تكنولوجية.
– أعمال تجسس وصفقات دبلوماسية.
– بعثات خارجية للحصول على الدعم المادي.
– أعمال شغب و انشقاقات في ظل الفريقين.
– ابتكار لسلسلة من المبررات الدينية لإضفاء نوع من الشرعية على الجرائم المقترفة.
ونظرا لقساوة الحصار وكثرة القوى المشاركة ولكمية الدمار الهائل التي خلفها ، أُطلِقَ عليه عدة تسميات ساخرة من بينها : المهرجان الكبير للموت ، المدرسة الحربية الأوروبية ، جامعة الحرب .
لم يكن الصراع حول مدينة أوستند Ostende صراعا إسبانيا/ هولنديا فقط، وإنما صراعا عالميا. حيث حظي كِلا الطرفين بدعم خارجي :
– تمتع المدافعون الهولنديون عن مدينة أوستند Ostende بدعم من انجلترا (إيزابيل الأولى Isabel I de Inglaterra)، فرنسا (هنري الرابع Enrique IV de Francia) وألمانيا البروتستانت.
– أما بالنسبة لجهة الهجوم، فلقد اعتُبِرَت الجيوش الإسبانية ( Los Tercios ) قوى رائدة على المستوى العالمي مما مكن الإمبراطورية من ممارسة سيادة عالمية في القرنين XVI و XVII . كما حظي الإسبان بدعم الجنود الموالين لهابسبورغ Habsburgo ، قشتالة، البرتغال، إيطاليا، الألمان. هذا بالإضافة لدعم الهولنديين “المخلصين” في ولائهم للعرش الإسباني وغيرهم. كما بارك البابا Clemente VIII الهجوم الحربي والحصار الإسباني الكاتوليكي ببعث أموال ومستشارين عسكريين لدعم القوى الإسبانية في حملتها “الكاتوليكية”.
استطاع محاصري أوستند Ostende في الثاني من يونيو لسنة 1604 من تحطيم السور الجنوبي للمدينة ليكتشفوا أن المدافعين عن أوستند قاموا بتشييد سور آخر داخلي. قامت على إثرها سلسلة من المعارك العنيفة بين الطرفين. وفي العشرين من سبتمبر، سلَّم حاكم Ostende أوستند Daniel d’Herting دانييل ديرتينغ المدينة لقائد جيوش الإمبراطورية الإسبانية أمبروزيو سبينولا Ambrosio Spinola.
……….
بعد استسلام أوستند Ostende تسلَّم الإسبان المدينة بعد أن نجحوا في تخريبها وتدميرها بشكل مهول. كانت مدة ثلاث سنوات، وشهرين و أسبوعين من الحصار كفيلة بتدمير منشآت المدينة، ومحو معالمها وإخضاع ساكنيها لمختلف الأمراض.
اعتبر الإسبان احتلال مدينة أوستند Ostende نجاحا عسكريا مهما. حيث قاموا باستغلال الحادثة للترويج لعظمة الإمبراطورية الإسبانية. إلا أن هذا النجاح العسكري لم يخف الحقيقة المُرة التي واجهها الإسبان والمتمثلة في :
– تسلم مدينة مخربة وجب إعادة إعمارها .
– ضياع وقت طويل في عملية الحصار.
– استنزاف مبالغ مالية مهمة مما ساهم في إفلاس الخزينة الملكية الإسبانية من جديد سنة 1607.
دفع الإرهاق العسكري والإقتصادي الذي لحق بالخصمين إلى اللجوء لهدنة في شتاء 1604-1605. والتي تعتبر تمهيدا لما عُرِفَ لاحقا ب”هدنة ال 12 سنة” الموقعة بشكل رسمي سنة 1609. يُعتبر حصار أوستند Ostende الحملة العسكرية الأكثر دموية وبشاعة ضمن سلسلة أحداث و معارك “حرب الثمانين عاما ” حيث راح ضحيتها أكثر من 100.000 شخص منتمين لكِلا الخصمين. وفي نفس السنة (1609) أصدر الملك فيليب الثالث قرار طرد الموريسكيين وبموجبه وجب على الموريسكيين (أحفاد السكان المسلمين الذين تحولوا إلى المسيحية بموجب مرسوم الملكين الكاثوليكيين في 14 فيفري 1502) مغادرة الأراضي الإسبانية.
ارتبط حصار مدينة أوستند Ostende في المخيلة الشعبية العامة بعدة أساطير، منها أن الحاكمة Isabel Clara Engenia إيزابيل كلارا إوخينيا وعدت بعدم تغيير ملابسها إلى أن ينجح الإسبان في احتلال المدينة فاتخذت ملابسها البيضاء لونا مصفرا غامقا من شدة العفن. ومن ذلك الوقت أخذ العامة في إطلاق اسم إيزابلينو Isabelino أو Isabelo إيزابيلو نسبة للأرشيدوقة Isabel على الأحصنة ذات اللون الحائر بين البياض والإصفرار. إلا أن هناك من يرجح أن الأسطورة ترتبط ب إيزابيل الكاتوليكية Isabel La Catolica و احتلال غرناطة (1492).