في 19 من يونيو الماضي شهد العالم تنازل ملك إسبانيا خوان كارلوس عن العرش لصالح ابنه فيليب السادس. وفي السنة الماضية، شهدت بلجيكا تنازل ملكها ألبير الثاني عن السلطة لصالح ابنه فيليب الأول متعللاً بكبر سنّه. تعددت في السنوات الأخيرة أحداث تنازل الملوك لأبنائهم الأمراء عن العرش. يبدو أننا نعيش في مرحلة أصبح فيها ملوك أوروبا، بسبب المشاكل السياسية والإقتصادية والفضائح الإجتماعية، يفضلون الهرب بعيداً عن الحقل السياسي. فمع بداية القرن الواحد والعشرين عرفت أوروبا عدة تنازلات ملكية عن العرش، فقد تنازل خوان ملك ليكسمبورغ عن العرش سنة 2000 لصالح ابنه إنريكي دي ليكسمبورغ، وفي ليختنشتاين تنازل الملك هانز آدم الثاني لابنه الأمير ألويس عن العرش سنة 2004، وتنازلت ملكة هولندا الملكة بياتريكس لابنها ڨيليم ألكساندرفي أبريل 2013.
تكررت ظاهرة التنازل عن العرش على مر التاريخ، تعددت أسبابها وتباينت. ولكن تبقى حالة “التنازل” التي عرفتها إسبانيا القرن السادس عشر من الحالات الغريبة والمثيرة للجدل ألا وهي: “تنازل” أو “إقصاء” الملكة خوانا الأولى الملقبة ب “خوانا المجنونة” عن العرش بسبب “إصابتها بالجنون”، وهي ابنة الملكان الكاثوليكيان (إيزابيل الأولى ملكة قشتالة وفيرديناند الثاني ملك أراغون). هل تنازلت خوانا فعلاً عن العرش؟ لماذا تم استبعادها عن الحكم وإن كانت الوريثة الشرعية؟ هل كانت خوانا مجنونة فعلاً أم أن جنونها ليس سوى اختراع آدمي لتجريدها من كل السلطات السياسية؟.
أثارت مسألة جنون خوانا اهتمام الباحثين والمؤرخين، وشكك العديد منهم في رواية العلة العقلية التي أصابتها حسب ما ترّوج له الروايات الرسمية. لذلك سنعرض اليوم وبإيجاز قصتها المثيرة.
تميزت شخصية خوانا ومنذ الطفولة بالتمرد على الأعراف والتقاليد الإجتماعية السائدة في تلك الفترة. لم تكن تحضر القدّاس، ولم تكن من محبّي الذهاب للكنيسة، وكانت تبدو شاذة ومتمردة ومختلفة عن كل من عاشوا حولها. كما أنها لطالما أبدت انزعاجاً من أساليب محاكم التفتيش القاسية التي أنشأها والداها. لذلك تعرضّت في حياتها لإهمال وإقصاء وعقوبات قاسية من أمها الملكة إيزابيلا وذلك لعدم حرصها على ممارسة الديانة الكاثوليكية، وتسببها بذلك بفضيحة للأم.
في شبابها، وبعد أن عقد والدها عدة اجتماعات واتفاقات مع مستشاريه قُرِّرَ تزويجها زواجاً سياسياً يعود على العائلة بمصالح مثمرة على المستوى الدُولي. وعليه تم تزويجها بفيليب هابسبورغ الملقب ب”فيليب الوسيم” النجل الثاني للإمبراطور ماكسيمليان الأول. وبالرغم أن الزواج كان رعاية ونصرة للمصالح السياسية إلا أن خوانا أحبت زوجها بشدة. نجح الزواج على المستوى الدبلوماسي فقط أما على المستوى العاطفي فلقد أطلق الزوج العنان لخياناته المتكررة. انفجرت بداخلها غيرة جنونية وعمياء ودخلت في مرحلة من الإحباط النفسي و الإهمال لمظهرها الخارجي. هي مظاهر لا ترتبط بالغيرة فقط وإنما هي أعراض امرأة تشعر أنها مهانة وأمام الجميع.
بدأت المشاكل الحقيقية تحل على حياة خوانا عندما أُعلن عنها كوريثة وحيدة لعرش قشتالة بعد وفاة والدتها الملكة إيزابيل سنة 1504. تصادف ذلك مع موت زوجها فيليب الذي حدث في فترة زمنية مقاربة. وبجنون خوانا المزعوم حزناً على فِراقه بدأت مأساتها. كتب الوالد فرناندو “الوصي” إلى جميع المحاكم شاكياً جنون ابنته بسبب الوفاة المفاجأة لزوجها. فوُلدت أسطورة جنونها وانتشرت. لم يهتم لا النبلاء ولا رجال الدين للوقوف أمام الوالد الوصي الذي أقصى ابنته وسجنها بتوردسيلاس وذلك لأن اعتلائها السلطة يشكّل تهديداً لمصالحهم الخاصة وللممارسات الكاثوليكية الصارمة التي كانت محوراً سياسياً بحتاً آنذاك. قام الوالد بحبسها بدعوى حمايتها من الإختطاف لحالتها العقلية المتدهورة سنة 1509. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت حياة خوانا مرتبطة بتوردسيلاس وإلى الأبد. وتولّى هو حكم وإدارة قشتالة.
يشهد بعض المؤرخين بأن لخوانا العديد من المواقف التي تثبت أنها إنسانة عاقلة سوية غير مجنونة كالخطاب الذي نددت فيه بإساءة والدها، بُعد أبنائها ، عدم توليها السلطة حتى بعد وفاة والدها الذي لم تعرف أنه فارق الحياة إلا بعد مضي فترة طويلة من الزمن.
كما شكك الأستاذ مانويل فيرنانديس ألباريس في أن تكون خوانا مصابة بالجنون واستبعد ما يقال حول رضاها بالإنعزال عن العالم، أي أنها لم تتنازل يوما عن إرادتها في حكم قشتالة، وما حدث أنها طلبت مساعدة من والدها فرناندو الكاثوليكي الذي لطالما أبدى فهما ًفي مسائل الدولة. ولكن يبدو أن فرناندو كان له رأي آخر، فما أن مارس الحكم تحت الظل كوصي غير مهتم بشؤون السلطة حتى شاء الإحتفاظ بكل شيء تحت يده. خاصة أن قشتالة وإن كانت مرتبطة بأراغون في السابق إلا أنه لم يحكمها بشكل فعلي في حياة زوجته إيزابيل. وهكذا قضت خوانا بقية حياتها أسيرة توردسيلاس بعيدة عن الحكم وعن أبنائها.
بعد وفاة والدها تسلم ابنها كارلوس الحكم. وفي الوثائق الرسمية أُعلن عنه كملك إلى جانب والدته التي ظلت سجينة. كان ذلك على المستوى النظري فقط أما الواقع فشيء آخر. تعرضت خوانا في سجنها للمعاملة السيئة من طرف الماركيز دي دينيا وزوجته الذين كُلفّا بحراستها ومرافقتها وقد وصلت الإساءة إلى الإهانة العلنية بل وحتى الإعتداء الجسدي. كما أُجبِرَت على ممارسة الطقوس الدينية التي لطالما رفضتها. توفيت خوانا الأولى في 12 أبريل من سنة 1555، بحضور فرانسيسكو دي بورخا الذي أقر بسلامة قواها العقلية.
سميرة فخرالدين
لله در كل خوانا مخانة