-أهلا، هل يمكنني أن ألتقط لكم صورة؟
وقفوا جميعا. حدقوا بي. حدقوا ببعضهم البعض. لم يجبني أحد. ولكنهم واصلوا الوقوف.
أعدت سؤالي، دائما بالإسبانية، للمرة الثانية ثم الثالثة. واصلتُ ثرثرة الإستفهام و واصلوا هم التحديق بي في صمت.
أمعقول أنهم لا يتحدثون الإسبانية؟ ألم يفهموا طلبي؟
أخيرا أجابوا باليوسكيرا (الباسكية) بكلمات لم أفهم منها أي شيء.وبابتسامة عريضة اصطفوا جميعا أمامي. التقطت لم هذه الصورة ثم رحلوا. رسموا على إيقاع طقطقة أحذيتهم التنكرية، سطرا على طول الرصيف واندثر حبرهم في ورق الطريق.
هكذا بَدَأت زيارتي لإقليم الباسك أو كما يسميها السكان المحليون “بلاد الباسك”. بدرس يثبت مدى تشبت الباسكي بلغته الأم. يُقال إذا حدَّثتَ إسبانيا بالإنجليزية سيجيبك بالإسبانية وأقول إذا حدثت باسكيا بالإسبانية سيجيبك بلغته، باليوسكيرا.
يتشبت الباسكي بالشخصية المختلفة، المتميزة، ذات الهوية المتمردة عن التبعية لإسبانيا ولفرنسا. يدعمون فكرة تميزهم الثقافي والتاريخي واختلافهم اللغوي للدفاع عن الهوية الباسكية المستقلة. تعد الباسكية من اللغات المعقدة والمجهولة الأصل. لا تشابه يربطها باللغات اللاتينية كالإسبانية والبرتغالية والفرنسية. ويشكل هذا الإختلاف إحدى الدعامات التي يتكئ عليها الباسكي لدعم قضية إنفصال وإستقلال بلاده (بلاد الباسك) عن كل سلطة خارجية.
وصلتُ بلدية ثاراوث الباسكية مساءا. تقع في مقاطعة غيبوثكوا. صادف حلولي بالمدينة احتفال أهل الباسك بكرنفال مطلع شهر مارس والمسمى باليوسكيرا ” إيناوترياك”. وهي عبارة عن احتفالات واستعراضات شعبية تلقائية تجوب الشوارع. أزياء لأطفال متنكرين وموسيقى أينما حللت. أطفال، شباب، نساء ورجال يضعون أقنعة الإحتفال. يمرون بالشوارع متنكرين في طريقهم للإحتفال بين الأصدقاء بالمقاهي والحانات. آخرون يكتفون بإزالة قناع اللامبالاة بالمشاركة بابتسامة ومتابعة. تعكس ملابس المتنكرين شخصيات مختلفة تاريخية، كوميدية، شعبية، وغيرها من الشخصيات التنكرية. اختلفت ألوانها، رموزها وتصاميمها ولكنها اتفقت جميعها على احتلال حاسة البصر بألوانها المتباينة. راقبتها محتمية بحيادي من بعيد كأي عجوز خامل القوى يسلي وحدته من بعيد فيكتفي بمرور ومراقبة وإبتسام.
خلال حكم فرانكو، تم قمع العديد من مظاهر إحتفالات الباسك بأعيادهم الشعبية ومنها الكرنفال. و وصل الأمر إلى ملاحقة المحتفلين بها قضائيا. فكان البعض يحتفل سرا. ولم يتم العودة لهذه الإحتفالات بشكل رسمي وعلني إلا بعد نهاية حكم فرانكو. لطالما أبدت قيادته كرها وتعصبا ضد شعب الباسك. أطلق على إقليم الباسك لقب «الولاية الخائنة». وأدى به هذا الكره لدرجة تحريض ألمانيا النازية على قصفها . حيث قامت طائرت حربية ألمانية وإيطالية بقصف “غيرنيكا” في الباسك في 26 أبريل 1937. وقد خلّد بيكاسو عملية قصف «غيرنيكا» في لوحته الشهيرة “غيرنيكا” التي غدت رمزا للدعوة لإيقاف الحروب وتحقيق السلم.
لعل أهم ما يميز ثاراوث شاطؤها الممتد على طول 2500 متر من الرمال الذهبية. والذي يعتبر الأكبر والأهم بنطقة غيبوثكا. يحد الشاطئ سلسلة من المقاهي والمطاعم . يشتهر الشاطئ بحركية أمواجه العاتية. فيقصده راكبي الأمواج وعشاق ممارسة رياضات البحر. حيث يتم تنظيم عدة مسابقات على مدار السنة.
لم تكن بلاد الباسك وجهة رئيسية لسفري. كانت مرحلة من مراحل السفر قبل التوجه للجنوب والغوص في أندلس. والضياع بين مدنها . مجرد التنقل بينها، بين مدن الأندلس ، بين محطة سفر وأخرى ، نشوة. تلك اللحظات التي تبدأ عندما تمتطي وسيلة نقل. تعانق النافذة. تنقش بأنفاسك غيما خجولا غير ممطر على الزجاج. تتجاوز نظراتك النافذة والأطر. تودع ضيعة وتستقبل الأخرى. تُخلِّف ورائك قرى تتراقص في ثوان لتنهش من عُمر دقائق وساعات السفر. تسافر بين الفواصل في كل حبة تراب، في كل شتيل وفي كل زيتون للبحث عن ملامح أندلس. تحلل التشابه بين خطوط الطرقات وخطوط التاريخ والزمن. تفقد في لحظات طقطقة الأقدام والأصوات والبشر. يمر المسافرون بجوارك وحقائبهم مليئة بصمتك ولامبالاتك. تكتفي أحيانا بالإصغاء لعطر رقيق مر بجوارك.
تمضي تذكرة السفر رحلة شبابها في جيبك، ثم تشيخ فجأة عند الوصول للمحطة. تتنكر لشيخوختها ولعجزها وترمي بها بعقوق في أي صندوق قمامة تجده أمامك. تجمع في تشتت ذهنك متاعك … الكل يخطو خطو العساكر نحو المخرج إلاك تتمتم في استقبال كل محطة جديدة أحرف “أ-ن-د-ل-س” … أندلس … يكفي أن تتهجى الأحرف بحب لتكون أديبا، فيلسوفا، مبدعا، شاعرا … لا بل قيصر الشعراء .
سميرة فخرالدين