من المستحيل تطبيق قوانين الجزء المرئي من الإنسان لفهم طبيعة الجزء المعنوي.
من المستحيل أن تتخيل واقعك المستقبلي دون أن تنسج صورة رمزية له في ذهنك.
من المستحيل إحداث تقدم في العلم دون المبادرة بالتعلم.
من المستحيل إتقان لغة دون مداولتها.
من المستحيل تعلم لغة أجنبية بشكل أكاديمي دون الإستعانة بقاموس خاص بها.
ومن المستحيل على العربي تعلم اللغة الإسبانية دون الإستعانة بقواميس كورينتي.
فدريكو كورينتي مستعرب إسباني حاصل على درجة دكتوراة من جامعة كمبلوتنسي بمدريد. شغل منصب مدرس للغات السامية ، خاصة اللغة العربية، و علم اللهجات والأدب العربي بجامعات ببلدان العالم العربي (مصر والمغرب) ، وجامعات أمريكية (الولايات المتحدة) ، وإسبانية (سرقسطة “في كلية فقه اللغة والأدب ، قسم دراسات العربية والإسلامية” ، جامعة كمبلوتنسي بمدريد ). وألقى محاضرات في تخصصه بعدة بلدان ( الأردن، تونس، الإمارات العربية المتحدة، فرنسا، بلجيكا، إنجلترا، ألمانيا، سويسرا، بولونيا وروسيا). تلقى عدة جوائز عالمية عن أعماله التي تتراوح إلى حوالي أربعون كتابا و خمس وخمسون مقالا مؤلفة بالقشتالية، الإنجليزية العربية ، الفرنسية البرتغالية أوالروسية. كما يجيد بمستوى مقبول العبرية الفارسية التركية اللاتينية و الكطلانية. هو عضو بأكاديمية اللغة العربية بالقاهرة، ومستعرب ألف أعمالا مهمة توطد التلاقح اللغوي والثقافي العربي الإسباني نذكر على سبيل المثال القاموس العربي الإسباني و القاموس الإسباني العربي وقاموس المفردات الإسبانية ذات الأصول العربية وغيرها من أعمال الترجمة عن الأدب العربي القديم، عن أدب القرون الوسطى والأدب العربي المعاصر هذا فضلا عن بعض الدراسات المتعلقة بعلم اللهجات كاهتمامه بلغة أهل الأندلس وعلاقتها بلغات شبه الجزيرة الإيبيرية.
حصل فدريكو كورينتي مؤخرا على دكتوراة فخرية في العاشر من فبراير 2015. ألقى على إثرها خطابا في جامعة La Laguna يلقي الضوء على عدة قضايا عالقة بين العالم العربي والغربي. سنعمل على تقديم ترجمة لأهم ماجاء في هذا الخطاب:
‘’ (…) بشكل عام، وإلى يومنا هذا، لا زالت هناك حالة نفور قائمة بين الأوروبيين والآسيويين، إذ يفرق بينهما على الدوام مضيق البوسفور أو ماجاوره، وتربطهما رغبة استعمارية أو وقائية غير طيبة تُتَرجَم في رغبة كل منهما في الإستيلاء على الضفة المقابلة. نفس المبدأ الجيوسياسي نجده قائما بشكل أو بآخر على مستوى ضفتي مضيق جبل طارق. إذ لا يدرك كِلا الطرفين التزامات الجار نحو جاره. غالبا ما ينتقدان بعضهما البعض بضراوة ملحوظة وموضوعية أقل. ينبحان باستمرار. وعندما يستطيعان و يفكران في التحرر من التشنجات القائمة، يَعُضَّان بعضهما البعض بجرأة لا متناهية. فيعتقد كل منهما أنه امتثل للواجب المقدس والمتمثل في الدفاع عن الحضارة ، بل وحتى الإنسانية و الألوهية، حسب الفهم المختلف لكل منهما.
يشكل ذلك، بطبيعة الحال، جزءا من الصورة العامة المؤسفة التي يقدمها الإنسان السلبي، و كما تقول إحدى النسخ الساخرة والمُحرَّفة عن المقطع الأخير لنشيد الأممية : ” الجنس البشري جنس مميت”. ولكن، بالنسبة لنا، و لجميع الذين يعيشون في هذا الجزء من الأرض، فإن ذلك يمسنا بشكل خاص جدا، وغالبا ما يؤلمنا كثيرا. الشيء الذي يتطلب تفكيرا وتغييرا للمواقف. وذلك ما نبحث عنه نحن كمتخصصين في العلوم الإنسانية وكمستشرقين من ذوي النية الحسنة، مستشرقين مقتنعين بتفاؤل بأن المعرفة المتبادلة هي أفضل علاج لخلافات الجوار. إذ أن التفاهم مع جارٍ اعتدنا أن نتقاسم معه القهوة والنبيذ وشيئا من الحديث عادة مايكون أسهل بكثير من تحقيق تفاهم مع جارٍ نحييه من بعيد وعلى مضض.(…)
تمتعت بلدان العالم الإسلامي في العصور الوسطى العليا بحرية ممارسة الفكر التي ذاع صيتها في ظل حكم الخلفاء الأموين و العباسيين. خلفاء وإن تميزوا بالطغيان كباقي ملوك تلك الفترة وكالعديد غيرهم من ملوك الحِقب الموالية، إلا أنهم ،و في أغلب الأحيان، تزودوا بثقافة كافية في كل الأمور التي مالوا لها أو اعتقدوا أنها تناسبهم. قدَّروا العلم، الأدب، الموسيقى، الفن بشكل عام، والمطبخ الجيد الذي لم يستبعد إراقة الخمور. كل ذلك، بمستويات تأخر الغرب عن التطلع إليها وبالتالي تجاوزها لقرون طويلة. نفس الشيء الذي قامت به بعض الرموز الكنسية من عصر النهضة التي رعت وأحبت اللذات بدل الإنشغال بلعب دور رجل الدين العبوس. وذلك أمر يستدعي أن نشكرهم عليه جميعا، فلو اتسم الإسلام أو هذا الجزء من الكنيسة الرومانية بالتفاعل فقط في مجالاتهما الخاصة، كالشيء الذي قامت به المسيحية في أوروبا الغربية الوسطى والشرقية في وقت مبكر، بهدم كل ما هو مختلف، وإرسال الناس افتراضيا للإستمتاع أو للمعاناة بالدار الآخرة (..)، لكان التاريخ مختلفا جدا وسيئا للغاية، على مستوى الثقافة والتقدم . بحيث لم يكن هناك سبيل لإحياء الإرث الكلاسيكي وكان من اللازم على الجميع العودة للصفر للبدء من جديد(…).
إن كره كل ماهو شرقي، أو في صيغته الأقرب لنا، كره كل ما هو إسلامي، لَظاهرة منتشرة جدا في العالم الغربي ، تماما كانتشار الكره لما هو غربي في العالم الإسلامي (…) . وبالرغم من أن ليس جميع عناصر الضغائن القائمة بين الطرفين غير منطقية ، إلا أنها تعكس واقعا مؤسفا لحالات جشع ومظالم لا تعد ولا تحصى، و جنايات وغيرة. وعليه سيكون مفيدا جدا التطلع للحد من هذا التوتر، وذلك بالإصرار على تحقيق تفاهم متبادل أفضل والمساهمة في التعريف ببعض الحقائق مما يقلص من انتشار عدوانية الأساطير القائمة (…).
في بلدنا، بشكل خاص، ونظرا لبعض الأسباب التاريخية المعروفة ك”الإحتلال” الإسلامي و “الإسترداد” المسيحي والقسوة التي تميزت بها الكاتوليكية الوطنية ، تعرضت الدراسات العربية والإسلامية ، والسامية بشكل عام، لإهمال خاص وبصفة أكبر ببلدنا مقارنة بباقي أرجاء أوروبا (…). حيث أقدمت محاكم التفتيش، بحرقها للعديد من الكتب و للأشخاص المشتبه فيهم بالهرطقة ، على القضاء على تلك الدراسات(…). من المثير للإهتمام أن أصبح لدينا حاليا العديد من المؤرخين الأكفاء و المتخصصين في مجالات معينة من الأدب و الفن الإسلامي. ولكن وحتى وقت قريب من الآونة الأخيرة ، لم يكن هناك وجود لأي لغوي ولا لأي عمل جاد في النحو وتأليف قواميس اللغة العربية (…). وحتى الإستعمار الحديث والمصغر للمغرب والصحراء الغربية في نهاية القرن التاسع عشر، لم يوقظ في بلدنا أدنى اهتمام بالدراسات المشرقية. دراسات مماثلة لتلك التي، و لنفس السبب العملي، ظهرت بفرنسا، إنجلترا، هولندا، ألمانيا وإيطاليا وحتى في روسيا. بالرغم من أن عصر التنوير قد علَّمنا ضرورة تقليد أوروبا المعاصرة، ولو من بعيد، إلا أن الضرر الذي ألحقته كل من محاكم التفتيش وعصر الظلمات بهياكلنا الثقافية لم يُعالَج بشكل كامل و لا حتى في القرن العشرين. دون أن ننسى تدمير الحرب الأهلية لجزء كبير من دوائرنا المثقفة التي كانت بالكاد قد تعافت وقتها؛ وقضائها من جديد، بين أشياء أخرى، على حرية التفكير وحرية خلق وحيازة ذاكرة. فالبعض لا يهتم بتذكر الماضي.
في ظل الظروف القائمة، وبالنسبة لنا كمتطلعين لاستخدام تلك القدرات الروحية ، أو فلنقل ببساطة أكبر، متطلعين لتنمية مواد غريبة ، لا زلنا نستطيع الذهاب للجامعة والحصول على شهادات أكاديمية ، ولكننا لا نستطيع ممارستها هنا بشكل طبيعي، ولا تنقيح مضمونها ، إلا بنفي أنفسنا لبضعة أو عدة سنوات خارج البلاد. هنا أيضا يمكننا استحضار إحدى النوادر المثيرة ، هي نادرة لا تخصني ولكنها مروية عن زميل غرناطي بطريقة مفصلة وبواقعية كبيرة. يَروي أنه في أيام دراسته وعندما كان يصعد صُحبة رفاقه الطلاب التلَّة متوجهين نحو مكتبة La Casa Del Chapiz حيث كانت ولا زالت تكمن تحت اسم آخر ” مدرسة الدراسات العربية ” عادة ما كان فتيان البيازين الصغار يرشقونهم بالحجارة وينعتونهم ب :” الصعاليك الذين يدرُسُون للمورس ” (…).
لم تضم الأكاديمية الملكية الإسبانية لعدة عقود أي مستعرب لغوي، حتى بعد وفاة آخر أفرادها المستعرب الموقر الدكتور إميليو غارسيا غوميز ، وإن لم يكن متخصصا في علوم اللغة. لم تفكر الأكاديمية طوال عقود في الفائدة ، أو بالأحرى، في الحاجة المؤسسية إلى تعويض مكانه، بالإستعانة بشخص مهيئ بالشكل الكافي، صغير نسبيا في السن ومتحمس. تماما كما لم تفكر في ضرورة توعية الدوائر المثقفة بالنفور القائم نحو مادة لا يجب أن نتجاهلها للحتمية التاريخية المتمثلة في وجود عدة قرون من التعايش ، للإختلاط الثقافي وللأثر اللغوي.
علاوة على ذلك، عندما طُلِبَ مني (…) في أحد الأوقات مراجعة إتيمولوجيا الألفاظ العربية الخاصة بالأكاديمية الملكية الإسبانية للطبعة القادمة ، أي الطبعة ماقبل الأخيرة حاليا ، (…) تم تبني ، تعديل أو رفض ملاحظاتي في بادئ الأمر و بطريقة اعتباطية وغير محترمة. (…) كان هناك انعدام جلي لحسن النية أو ، فلنقل على الأقل، انعدام الوعي بضرورة تعديل الأخطاء و محو وإعادة ترتيب الأشياء من جديد.
عندما ستُباشَر هذه المهمة، إذا ما حان وقتها يوما ما مع أننا لا نتوقع رؤية ذلك اليوم بالأساس ، ستكون مهمة صعبة، لأنها لا تتعلق فقط بمحاربة جهل قائم وإنما محاربة أيضا أحكام عقائدية مسبقة و راسخة بشكل قوي لدى جميع الإسبان ، بما في ذلك معظم الشريحة المثقفة (…).
فلنحاول أولا وقبل كل شيء تعريف المصطلحات، لأننا نحن أبناء عصر التنوير، وقعنا في فخ إتيمولوجي يعتبر الجامعة مؤسسة مثالية ، فقط الجامعة و دونا عن غيرها ، بالطبيعة وبالميل السرمدي، تستطيع بل و يجب أن تضم كل العلم والعلوم. بينما لا يستطيع الإنسان تحقيق الكمال الفكري والعلمي خارجها.
فلنتذكر أن الجامعات الأوروبية ظهرت على إثر اتفاقات عُقِدت بين ملوك وأساقفة (..) لحماية مصالحهم الإقتصادية، و لضمان مستوى معين بالمدارس التي تُعنى بتلقين أصول الدين ، الطب والقانون، لا أقل و لا أكثر. وذلك لأن كليهما كانا بحاجة لأشخاص مؤهلين في هذه التخصصات دعما لمصلحتهم الخاصة و لمصلحة رعاياهم أو، فلنقل على الأقل، تحقيقا للمصالح المرتبطة بحكوماتهم (..) .
كما أن الكل كان قد سمع في تلك الفترة بشكل أو بآخر بفعالية “بيوت الحكمة” الخاصة بالعالم الإسلامي، التي ضمت مكتبات، مختبرات ومستشفيات مما سمح لها في ذلك الوقت بحيازة أفضل الأطباء، الصيادلة وعلماء القانون. ناهيك عن العلماء المتخصصين في اللاهوت، الذين وإن تلقنوا تعليمهم في مراكز أخرى ملحقة بالمساجد، إلا أنهم مارسوا فعليا التوفيق بين العقل والإيمان. أو على الأقل حاولوا. كان ذلك قبل فترة طويلة من محاولات الراهب أكينو: (…) كان للترجمات العربية السبق في إعادة أعمال أرسطو المفقودة إلى أوروبا بعد تدمير الفلسفة والفنون المسماة “فنون وثنية” وتخريب الثقافة الإغريقية – الرومانية ، إحراق مكتباتها، تهشيم تماثيلها و المعابد. ولكن (…) ضاعفت لاحقا الجامعات الأوروبية المهام والكليات لتستحق عن جدارة أن تُوصف بنعت الشمولية ، الأمر الذي يبدو حاليا وكأنه كان متواجدا منذ الأزل( …).
يقول أحد الزعماء الأوروبيين والذي لن أذكر اسمه لعدم أهميته. وهو في رأيي ، لا يستحق أن نُخصِّصَ له جزءًا من الذاكرة :
” من الآن فصاعدا، على الجامعة أن تُدَرِّسَ فقط : المعلوماتيات، الدين والإنجليزية”!
(…) بقدر ما يتعين علينا الإعتراف بأن إنسان القرن الواحد والعشرين أصبح وبكل صراحة قابلا للتحسن بشكل أفضل ، بقدر أننا لا نستطيع تقبُل، بل نقشعر أمام توقع احتمال ما يمكن أن تكون عليه عواقب تحويله من “إنسان” إلى مجرد “كائن منفعي”. كائن يمدحه المحافظون الجدد ، أولئك الذين لا يملون من إزعاج الطبقة الوسطى ، وسائل الإعلام الحرة، و المرافق العامة سواءا الصحية أوالثقافية. (…) من الواضح أنهم يرفضون العلوم الإنسانية. لأن الفلسفة والتاريخ ، برؤيتهما النقدية والغير متحيزة ، تجعلهم يبدون صغراء في عيون من يخالطونهم. (..) يتم محاولة إقناع الجميع بأن النمو الإقتصادي المستمر هو الضمان الوحيد للمستقبل، وكأننا لم نرى ولمرات عديدة ما يحدث حتما لأي “بالون” لا يتوقف عن التضخم.
إن نجاة الإنسانية لرهين (..) بوجود الجامعات العامة بجميع كُلِّياتِها الضرورية، من علوم وآداب، حيث لا يتم تعليم التقنيات والمهارات المفيدة اقتصاديا فقط ، وإنما أيضا توفير تكوين (…) أخلاقي و جمالي ، ضروري لاستمرارنا كحيوانات عاقلة حقا ، قادرة على التفكير ، وعلى تذكر ماضينا الذي يجعل منا آدميين مميزين وغير مستنسخين (…).
ترجمة سميرة فخرالدين