مقدمة
إن مساهمة العلم العربي في تطوير الأنشطة العلمية في أوروبا هي حقيقة معروفة منذ قرون، وذلك لأن علماء القرون الوسطى أنفسهم ما انفكوا، في كتاباتهم الخاصة، يرجعون إلى المصادر التي وصلت اليهم. ولكن عندما يتعلق الأمر بتحديد محتوى هذه المساهمة وتقدير أهميتها النوعية ووصف السّبل المتعددة التي من خلالها رحلت من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، فإن صعوبات كثيرة تظهر بسبب ندرة الشهادات وقلة البحوث في هذا الموضوع.
ومن المسلّم به أيضاً أن إسبانيا لعبت دوراً رئيسياً في تداول الأفكار المكتوبة والخبرة من المحيط الثقافي العربي المسلم إلى المراكز العلمية في بقية أوروبا وعلى وجه الخصوص تلك المتواجدة في السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. ولكن، هنا أيضاً، نواجه صعوبات كبيرة عندما نريد دراسة بعض جوانب هذه المساهمة، ولا سيما الدور المحدد الذي لعبه إنتاج المراكز العلمية من إسبانيا في الحركة البطيئة للأفكار وأدوات الرياضيات إلى ما وراء جبال البيرني، منذ القرن العاشر.
من خلال هذه الدراسة القصيرة، سنحاول ايضاح نتائج البحوث المقامة في العقود الأخيرة والتي تتناول انتشار علوم الرياضيات اليونانية والهندية والعربية في إسبانيا خلال القرون الوسطى، ثم انتشار هذه العلوم من بعد ذلك لتصل الى شمال أوروبا، وهذه النتائج تم التّوصل اليها من خلال الكتابات التي خلفها الرياضيون أنفسهم.
في الجزء الأول من هذا المقال سوف نتطرق إلى التّوجهات الأساسية لعلماء الرياضيات العرب وذلك من خلال تحديد محتوى فصول أعمالهم، والأعمال التي استطاعت الانتشار عن طريق مختلف السّبل، أما في الجزء الثاني فسوف نتطرق خصوصاً إلى التّراث العلميّ لإسبانيا في القرون الوسطى من ناحية كونه تراث مثمر، ومن ناحية كونه يمثل مرحلة نشر للمؤلفات الرّياضية المتاحة في تلك الفترة.
ولكن قبل ذلك، من الضروري إعطاء بعض الملاحظات الهامة حول ظاهرة نشر العلم اليوناني والهندي والعربي. هذه التعليقات مرتبطة بمضمون ما تم تعميمه فعلاً من كتب أو مفاهيم علمية وبالطريقة التي تمّ بها هذا التّعميم منذ القرن العاشر على الأقل، من الشرق إلى الغرب أولاً، ثم من الجنوب إلى الشمال.
أولاً: تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “نقل”، المستخدم باستمرار حتى من قبل مؤرخي العلوم للحديث عن حركة الرياضيات العربية من إسبانيا والمغرب العربي أو صقلية أساساً، هو تعبير غير مناسب. في الواقع، لم يكن هناك أي “نقل” قد يعني أن علماء من المجال الثقافي العربيّ- المسلم قد نشروا عمداً كتاباتهم.
ثانياً: يجب علينا التّركيز على حقيقة أنّه لأسباب عدة غير معروفة في مجملها، كان هذا الاعتماد جزئياً ومقصوراً على بعض التخصصات، بطريقة انتقائية إلى حد ما. إذ يمكن تفسير الميزة الجزئية لتداول الكتابات الرّياضيّة والفلكيّة، عندما يتعلق الأمر بمؤلفات شرقية، من خلال حقيقة بسيطة تتمثل في أن هذه الكتابات لم تكن معروفة حتى عند علماء إسبانيا والمغرب العربي. وهذا ما يمكننا تأكيده في حالة عدد من مؤلفات البيروني، الخيام، والكرخي. مع أن هذا يمكن تفسيره أحياناً بالمستوى العالي لبعض المؤلفات العلمية العربية ومحتواها المعقّد الذي يتطلب اكتساب معارف عديدة لم تكن متاحة بعد في أوروبا مع بداية الظاهرة الكبيرة للترجمة، أي في أوائل القرن الثاني عشر.
أما فيما يخص الميزة الإنتقائية للترجمات، والمتعلقة بالرياضيات، نجد علم المواريث الذي يمثل فصلاً جد هام من النّاحية الكميّة في الممارسة الرياضيّة للدول الإسلامية. وبالرغم من الاهتمام المكرسّ له من خلال الفصل الأخير للكتاب الشهير “الجبر” للخوارزمي لم يكن موضوع أي ترجمة إلى اللاتينية كما يبدو. والتّفسير الأكثر احتمالاً لهذه الحقيقة يمكن ردّه إلى الطابع الديني لهذا الفصل كونّه يتعلق بمسائل توزيع الإرث وفقاً للشرع الإسلامي.
إنتاج الشرق في مجالي الرياضيات والفلك وانتشاره في أوروبا:
انطلاقاً من خلفية علمية محلية، وبخاصة من ترجمات الأعمال الرّياضية الهندية والإغريقية أساساً، شهدت منطقة الشّرق الأوسط بداية من القرن التاسع الميلادي ولادة وتطوير مجموعة من الأنشطة التي ستساعد على إقامة تقليد علمي قوي يتمتع ببعض الخصائص: الاستيعاب النقدي لمضامين الموروث القديم وتجاوزه، وأحياناً تجميع إسهامات علمية من أوساط ثقافية مختلفة والتي تنطوي على أساليب جديدة (مثل تداخل الأساليب الاستنتاجية والحسابية في الرياضيات أو المناهج النظرية والتجريبية في الفيزياء)، ثم إعادة كتابة وتطوير بعض الفصول التقليدية، وإنشاء المصطلحات المناسبة لكل تخصص، وتأسيس المفاهيم والأدوات والنتائج الجديدة، والبحث في مجالات لم يتم التطرق إليها سابقاً.
حقوق الترجمة والنشر محفوظة لشبكة Moutarjam | مترجَم