لكن الواقع أن نهاية الوجود الإسلامي ليس في الأندلس فحسب بل وعامة جزر المتوسط (وربما لولا تدخل صلاح الدين الأيوبي لتلتها الشام ) هو نتاج معادلة صعبة تتدخل فيها كافة الأطراف والتي تنبثق من مصدر واحد هو ضعف وسقوط الخلافة العباسية، فالحملات الصليبية على القدس ومصر جعلت كفة التواجد الإسلامي في مياه المتوسط تضعف بشكل هام، ليفقد المسلمون أهم القواعد البحرية في صقلية و سردينيا ومالطا وكورسيكا. وهي القواعد التي شكلت أولوية الفتوحات الأموية (خاصة فتوحات موسى بن نصير قبيل فتح الأندلس و سبتة).
فقدان المسلمين لليد على البحر المتوسط، أثر بشكل مباشر على التبادلات التجارية، وبالتالي الموارد المالية مما أدى إلى اختلال القوى الحاكمة في المنطقة وبالتالي إضعاف للجبهات والثغور (بما غذته الصراعات على السلطان من عدم استقرار)…في الأندلس مثلا ، نجد أن القوة الاقتصادية للمكنون الأندلسي تذبذبت مع إيقاع السيطرة العسكرية على مناطق البحر المتوسط…
ففي العهد الأموي و عهد ملوك الطوائف و بداية عهد المرابطين، كانت التجارة الدولية الأندلسية في أيدي المسلمين، فكان الناس يسافرون بين الشرق والغرب، برا ًوبحراً على شواطئ المتوسط، يحملون البضائع من الشرق كالأقمشة والأصباغ والتوابل والفلفل، أو من الجنوب كالذهب والمعادن، لتباع في أسواق الأندلس المحلية ويوزع منها بعد ذلك في كافة أرجاء أوروبا، وبالمقابل كانوا يحملون من الأندلس الزعفران والزيت والجلود والصوف والمرجان إلى الشرق في طريق العودة (خاصة أن التجار نادراً ما يتخصصون في بضاعة معينة).
ونجد في ذلك نمو وازدهار جميع موانئ الأندلس آنذاك (والتي شكلت نقط صراع مرير بين ملوك الطوائف) خاصة ألمرية وبلنسية وجزر البليار وطرطوشة، وارتكاز الأسواق القرطبية والإشبيلية والغرناطية في مرتبة هامة للمبادلات.
للأسف مع فقدان السيطرة على المتوسط وفقدان الممالك الشمالية للأندلس، أخذت الخارطة التجارية تتغير أواسط القرن السادس الهجري/ الثاني عشر ميلادي، فتمكّن التجار المسيحيون من التضييق على المبادلات الإسلامية، وخاصة التجار الإيطاليون الذين استفادوا من الحملات الصليبية بشكل قوي، فبرزت جنوة، والبندقية ومارسيليا كبدائل لموانئ المبادلات الأندلسية، وماكانت إلا لتلقى تشجيع الكنيسة الكاثوليكية والملوك الصليبيين في الشمال، خاصة وأن السفن الصليبية كانت تمر في أمان كبير (بعد سقوط جزر البليار التي كان أهلها يُغيرون على الثغور المسيحية انطلاقاً منها وهو مانجده في المصادر عن بني غانية وسكان اليابسة)، على العكس من المسلمة التي كانت تتعرض للنهب والقرصنة، وبالتالي تفاقم الخسارات التجارية.
تغيَّر الوضع، وأصبح التجّار الإيطاليون والقطلانييون يملؤون الأسواق الأندلسية، بل حتى سفن الشحن أصبحت إيطالية أو قطلانية في موانئ المسلمين، وضعفت الخزائن التجارية لصالح الموانئ المسيحية، فاهتزت الأسعار بشكل متفاوت غلب على المعيشة الأندلسية التي أنهكتها الصراعات الداخلية وفقدان الأمن.
في الوقت نفسه بدأت خزائن ملوك الشمال تمتلئ، وصناعتهم تتطور بعد أن استمدوا التقنيات الإسلامية في النسج وتصنيع المعادن والجلود (للأسف في كثير من الأحيان بأياد مسلمة) ووسائل التبادل المالي من صكوك وعهود تجارية.
انقلبت الخارطة التجارية رأساً على عقب في الأندلس، وأصبح التجّار المسلمون لايستطيعون التنقل والبيع دون أن يؤدووا جزيات مرتفعة للقشتاليين والأراغونيين، فانهارت الكثير من المدائن المسلمة اقتصادياً حتى قبل غزوها، والغريب أن الملوك كانوا لاهيين في بناء القصور والتفاخر الفارغ، مع أن أعداد الجيوش النظامية كانت في انهيار وموارد التسلح أصبحت لاتكفي حتّى في صناعة معدات بسيطة فما بالك ببناء حصون و قلاع منيعة.