الأندلس, معبر الرّاكبين و ساحة اللّاعبين

الأندلس, معبر الرّاكبين و ساحة اللّاعبين

أتذكّر تلك السّاعات الثمينة التي كنت أقضيها في قراءة كتب الأندلس الصّفراء, بينما كان الجميع ينظرون إلى شعوذات حصّة هالة سرحان, كانت كلّ تلفزات الحيّ تصدر نفس الصّوت و تشعّ بنفس الألوان , لم يكن هناك أنترنت ولا فيسبوك ولا مكتبة شاملة و لا كتب إلكترونية, كانت ساحة القتال لا تؤمن بالحرب الذكّية , كان على كلّ من شاء أن يخوض بحر المعرفة أن يحمل سلاح الكتاب أو المجلّة و أن يبلّل نفسه في ماء القراءة و المطالعة . كنت حينها مثل الجمل الذي يطلق في شاطئ البحر صيفا, لا هو يفهم النّاس ولا النّاس تفهمه …كنت في غير محلّي …
لم يكن يرد حديث الأندلس على ألسنة العامة ولا في الشّاشات و يندر أن تجده في جريدة أو مجلّة, و كان لزاما عليك أن تعيش هيامك منفردا منعزلا, و كانت تلك متعة الأندلس…
أمّا المتعة التي فاقتها فكانت أوّل ما التقيت ناسا تقاسمني نفس المعشوقة , كنّا نتجاذب حولها أطراف الحديث, نذكر جمالها و روعتها, نغتاظ لطيشها و جنونها, نتواسى في مصابها…
كان سيل الزّمن يجري بسرعة كبيرة و لم ننتبه له حتى وجدناه يحمل لنا عالما جديدا يجرّ في أطرافه الجميع, عالم الكتروني بديع, شبكات اجتماعية, منتديات, وسائل اتصال, قنوات فضائية …
انفتح الموصد بعد انغلاق و التقى الغائب بعد فراق و سطعت شمس المعرفة على الجميع , و ظننا أنّ الماء غيض و أنّها رست على الجودي …و انتظرنا إبداعات و إشعاعات الجميع , و أحسسنا بأنّ يتمنا في الأندلس قد آن أن يُقسم و أنّ شوقنا للمفقود قد حان أن يُفهم …

التقينا جماعات و فرادى في عالمنا الافتراضي تارة و على الأرض تارة أخرى, فرسمنا و كتبنا و خطّطنا و أنشأنا و حملنا لواء الحديث عن الأندلس و مزّقناه قطعا صغيرة و فرقناها على كلّ من له للأندلس ودّ …و لاح للحظة أنّ بستان الحسناء قد عاد ليزهر و أنّ شجر الحمراء قد آب ليثمر …
لكن أبى طبع هذه الأمة إلا أن يغلب على حيارى الأندلس, فراح كلّ واحد يلوي لنفسه لواء و ينشد لذاته نداء فتفرّق حبّ الرّمان والتقطه ديك الفرقة …
بعد جهد لذيذ و نصب ممتع اتضّح لي أنّ الأندلس تحوّلت معبرا لكلّ راكب و ساحة لكلّ لاعب, لم تعد قضيّة أمّة و تاريخا و حقيقة ودرسا, بل باتت جسرا مبنّيا من زور و تزييف و تلاعب بعواطف النّاس و ذكرياتهم الجميلة , انقرض زمان المحققين الذين جابوا ربوع الأندلس بحثا عن الحقائق المكنونة في الخزائن الملكية والدير الكنسية داخلين بلدا كان يتنفس حقدا دفينا للإسلام و العروبة وخارجين من ديار كان ينهشها الاستعمار و الانتداب , رغم ذلك كانوا جهابذة خلفوا لنا دررا علمية يقتلع بعض التافهين منها أجزاءا منتثرة و ينصبون بها سلالما عساها تسقط بهم في مرتفعات لا تحتملها رئاتهم الضيقة …
ولّى زمن البحث عن الحقيقة و الالتزام بنقل النّص و الحياد في معالجته , و صارت الأندلس ملعبا يتبادل فيه الفاشلون كرات البكاء على الزيف و النقمة على الماضي …
و بما أنّني لا أركب و لا ألعب فإنّني فارقت ساحتهم و غادرت مسرحهم و عدت إلى الضوء الأصفر الخافت الذي يتلاعب فوق ورق الكتاب الناعس و إلى أزيز الكرسي تحتي يرافقني القراءة ويتحسر أنّه غير قادر أن يحتسي معي ذاك الشاي الذي يحرسني من لصوص السّهر …
عاشت الأندلس و لو سقطت …و سقط من ركبها ولو عاش …

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *