الأندلس : استرداد أم استيلاء؟ – لمحات عامة
في الثاني من يناير 1492 ميلادية وقعت معاهدة دولية بين مملكة غرناطة الممثلة بحاكمها محمد ابو عبدالله الصغير آخر ملوك الأندلس وملوك قشتالة وأراغون وليون وصقلية والممثلين عنهم بالزوّجين الملك فرننادو والملكة إيزابيلا، تعهدّ الطرف الأخير في هذه الإتفاقية بالالتزام بسلسلةٍ من العهود والواجبات والشروط التي ما لبث أن تم غدرها بعد سنوات قليلة رغم كل الأعراف والأقسام والتعهدات التي بُذلت من أعلى القيادات الدولية في عهدهم آنذاك وعلى رأسهم بابا الفاتيكان نفسه، ومنذ تلك اللحظة مورِست عملية ممنهجة بتضليل وتزييف الحقائق لنسف الوجود الأندلسيّ وإنكاره حتى من أهله، الرواية الإسبانية بإسترداد “الأندلس” رواية يتبناه للأسف جلّ كبير من المفكرين العرب والمسلمين، بل ويُروّج لها إعلامياً – بقصد أو بدون – في منابرهم.
ومع ذلك فقد برز في الآونة الأخيرة تيار معارض لهذه الرواية يتقصىّ الحقائق ويقف عليها وقفة جادة عليها لرد الاعتبار لهذه الحقوق المحاصرة أكاديميًا، وسأحاول من خلال هذه المساحة الإجابة عن بعض ما يرد عند الحديث عن الأندلس بطريقة مقتضبة، مع التأكيد على أن البحث والتحقيق في هذا الأمر لا يعني العدائية مع “إسبانيا” ولا يُقصد منه المحاكمة، لكنه تأكيد على رفض تزييف الوعي.
سقوط الأندلس: إسترداد أم إستيلاء ؟
الإسترداد بمفهومه البسيط هو استرجاع ما كان لك، واستعادة ما كنت تملك عبر أحقيّة وشرعية تفنّدها الحقائق ويمكن إثباتها، وفيها معانٍ كثيرة كرد الدَين وكرد الحق، وكلها تصبّ في مفهوم الأحقيّة وشرعنة الأخذ، وعلى ذلك تنعت الكثير من المصادر حروب إسقاط الأندلس بحروب الاسترداد، والتي تعني العملية التاريخية المتعاقبة لسلسلة من الحروب التي انهت الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية حتى إسقاط مملكة غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492 بمعاهدة التسليم المغدورة.
ومن هنا تلحظ عند حديث العموم عن الأندلس شيء من الحياء في ذكرها وحالة من التلعثم والخجل تعتري أي إدعاء خلاف ذلك، فهي ببساطة عند كُثُر أرض عادت لـ” أهلها”! حتى أن الكثير من المتناولين لتاريخ الأندلس، يقتنعون بل ويروّجون لفكرة أنها كانت محتلّة، وأن (الإسبان) استعادوا حقّهم المسلوب عبر حروب “الاسترداد” الكاثولوكية، فهل كانت حروب استرداد أم حروب استيلاء ؟
إذا كان مقياس الاستعادة والاسترداد للأرض منوط بالقومية والعرق أو بالدين والمعتقد، ففي ذلك جملة من التساؤلات:
– هل كانت الأندلس قبل الفتح الإسلامي كاثولوكية ؟
– من أين جاءت الممالك التي أسقطت الأندلس؟
– ومن الذين طُردوا من الأندلس ؟
يقول “هشام زليم” المدَّون المغربي المهتمّ بالشأن الأندلسيّ أن “الإدعاء بأن الأندلس كانت نصرانية كنسية قبل مجيء الفتح الأندلسيّ ماهو إلا مسرحية كاثوليكية بإخراج وإنتاج كاثوليكي وجمهور عاطفي ساذج أو ذو نية سيئة كان بينهم للأسف مسلمون حملوا على عاتقهم الدفاع عن هذه المسرحية البائسة والاستماتة في نعت الفتح بالاحتلال والغزو وركوب الصعاب لشرعنة “احتلال” الكاثوليك لأرض الأندلس، وهذا الادعاء يسقط مع أي بحث تاريخي إذ أن الدعاية الإسبانية ومروجيها من رجال الكنيسة والدولة لا يستطيعون الاعتراف أن “النصرانية” فشلت أمام الإسلام سنة 711م لسبب بسيط هو أن أهل الأندلس كانوا على عقيدة آريوس الموحدة لله، والرافضة لألوهية المسيح والمعادية”، ويوافق “هشام زليم” الكثير من الباحثين والمؤرخين في الغرب قبل العرب، والذين يشيرون إلى مراسلات نبوية محمدية منذ العهد الأول للدعوة الإسلامية وصلت إلى جزيرة آيبريا مبكراً وتلقتها الصدور الموحدة هناك بكل رحب، ومن يقرأ تاريخ الأندلس قبل الفتح من مصادره الصحيحة يدرك حجم الخلافات الضروس على من يريد فرض التنصير الكاثولوكي على أهلها الموحدين قبل الفتح الإسلامي، أي أن الصراع مع التوحيد هناك كان يأخذ مأخذاً عميقاً في تلك الفترة حتى شبّه بعض المؤرخون دخول جيش طارق بن زياد بالمنقذ المخلص، الأمر الذي يعتبر تعليلاً وسبباً من الأسباب التي تفسر طواعية دخول سكان جزيرة آيبريا سريعاً للإسلام بعد الفتح لاحقاً، ويمكن مراجعة ذلك من مصادر تحمل وجهات نظر غربية صرفة وموضوعية وتؤكد هذه الحقائق وتضحض مزاعم نصرانية المنطقة قبل دخول الإسلام والتي بها يتحججّ زعماء نظرية الإسترداد، ككتاب: “La revolución islámica en Occidente” للمؤلف: “لاغناسيو أولاغي”
“Ignacio Olagüe” باللغة الفرنسية، وهو كتاب يرسم إشكالات مهمة في هذا المبحث التاريخي المجهول.
أما بالنسبة للشقّ الثاني: فمن الذين أسقطوا الأندلس؟ وكيف عادت “إسبانيا” لأهلها! وهل هناك أصلاً “إسبانيا” قبل الأندلس؟!
في الحقيقة لم يكن قبل عام 1492م شيء يدعى “إسبانيا” بالمطلق، لم يكن هناك هوية أو أمة أو ثقافة تُنعت بالإسبانية، فعملية إسقاط الأندلس جاءت مع نشوء ممالك ظهرت مع تبعيات إنهاء الوجود الإسلامي تباعاً في المنطقة، أي كانت عبارة عن مجموعة من الأمم سقطت تحت سيطرة مملكتي قشتالة وأراغون. وهم شعوب عدة لا هوية واحدة، هناك شعب البشكنس في الشمال (الباسك)، وهناك الشعب الجليقي في الشمال الغربي، وكذلك الشعب القطلاني في الشرق، والشعب القشتالي في الوسط، والشعب الأندلسي في الجنوب، وهناك مجموعة من الشعوب وحّدها الإسلام تحت اسم الأندلس التاريخية ثم تساقطت الواحدة تلو الأخرى تحت الإحتلال القشتالي الأراغوني، وعندما دخل المسلمون –أو بالأحرى الفكر الإسلامي- وجد شعوباً وليس شعباً واحداً، و لم يكن بين تلك الشعوب أمة تسمى “إسبانيا” فهي كذبة تاريخية كبرى، بل حتى القرن الثامن عشر كانت المصادر تتحدث عن “إسبانيات” –أي مجموعة أمم مختلفة- و ليس “إسبانيا” كما هو متعارف عليه اليوم، وكان الداعم الأكبر لسقوط الأندلس هو تحالفات خارجية لـ”مرتزقة” بالمعنى الحرفي مدعومة من أوروبا جاءت للانقضاض على الأطماع الأندلسية، وتم تحريكهم ببنزين العنصرية الدينية بمباركة باوبويّة كحال جلّ الحروب الصليبية أو الكنسية على مدار التاريخ، إذا كيف يستردها من لم يكن أصلاً موجود قبل سقوطها، بأي منطق؟.
الشقّ الثالث: إدعّاء ذريعة (أجنبية) الغزاة، وهو أن العرب ومن معهم من الأمازيغ احتلو الأندلس البلاد الغريبة عنهم، وأن قرار الطرد من الأندلس جاء لدحر كل أولئك الغزاة (الأجانب) عن جزيرة آيبريا، فلماذا نأسف على “محتلّين” و”معتدين”؟.
فُتحت الأندلس بهدف نشر الإسلام، والذي وجد البيئة المناسبة لنشر العدل والهداية لشعوب جزيرة آيبيريا، ولا يهم ما عرق أو قومية الفاتح ومن معه، المهم هو ماذا حدث للشعوب التي تلّقت رسالة الفاتحين “الغزاة”، وعليه يجب التفريق تماماً بين الهوية العربية وبين العرق العربي، فغالبية المجتمعات التي فتحت إسلامياً تعرّبت واصطبغت بالعربية إلا قليل منها، والتعريب جاء بطبيعة الرسالة الإسلامية، بالإضافة لحالة التجاور للحضارة الإسلامية، فالفرق شاسع بين ممارسة العادات العربية – لإسلامهم أو لوجودهم في مجتمع إسلامي-، وبين كونهم عرباً أقحاحاً بالنسب، هذا لا يعني عدم وجود أعراق أخرى، فلاشكّ أن المجتمع الأندلسيّ كان به خليط فريد ومميز من الأعراق بما فيه العرب والأمازيغ بالإضافة للقوط وسواهم، لكن لا يمكن أبداً اغفال أهل الأندلس الجلّ الأعظم المسلم الموحد في المجتمع الأندلسيّ بجزيرة آيبريا، فالسفراء القشتاليون قبل تسليم آخر مدن الأندلس “غرناطة” كانوا يبالغون بوصف أن العنصر المسيحي هو صاحب الغلبة في تلك المجتمعات وهو ادعاء عارٍ عن الصحّة بل حتى ادعاء المؤرخ “ابن الخطيب” بالغالبية العظمى للوجود العربي فيه الكثير من المبالغة التي تضحدها الوثائق الإسبانية ذاتها والتي تناقض نفسها بإنكارها اليوم، فالوثائق الغرناطية المتأخرة تثبت أن الشعب الغرناطي -والذي كان الحاضن الأكبر للوجود الأندلسيّ حيث الملجأ الأخير- كان شعباً أندلسياً أصيلاً، فأسماء كثير من الأشخاص الذين يظهرون في تلك الوثائق لا تنم عن أصل عربي من قريب أو بعيد، وكذلك ألقابهم لا تدل على أصول مشرقية، وبهذا كان الغرناطي في هذا العصر لا يحافظ على نسبه ليثبت أنه يرجع إلى قريش أو أي قبيلة عربية عريقة أخرى، وإنما كان يقرر صراحة أنه وأسلافه يرجعون إلى أصل أندلسيّ، وكان يفخر قبل كل شيء بأنه أندلسيّ مسلم، وهكذا نجد ألقاباً أندلسية تنسب إلى المدن والأقاليم في تلك البلاد مثل الأنجروني نسبة إلى الأنجرون والدلائي نسبة إلى دلاية ، والحامي نسبة إلى الحامة والمالقي نسبة إلى مالقة وهكذا! (1) والقائمة طويلة جداً، بل إن المستشرق الأميركي الدكتور “دوايت رينولد” وهو أستاذ مشارك في قسم الدراسات الدينية في جامعة كالفورنيا، ومدير مركز لدراسات الشرق الأوسط هناك يقول إن الأشخاص الذين طردوا من الأندلس سنة 1609 بالقرار “الإسباني”لم يكونوا من العرب أو الأمازيغ -كما يدّعي كثر- بل كانوا من سكان أيبيريا الأصليين وكان “أبناء عمومتهم” في الشمال يطردونهم من ديارهم، وهي رؤية مختلفة تماماً عن حقيقة عملية الطرد وهدفها ولا سيما أن الأشخاص الذين طُردوا كانوا من السكان الأصليين، إذاً فعملية الطرد من الأندلس والتهجير العنصريّ كان – في أبسط التفسيرات- أقرب لحرب أهليّة دينية قامت بها سطوة الكاثوليك على كل من خالف معتقدهم من أهل الأندلس يهوداً أو مسلمين!. حربٌ طُرِدَ فيها أصحاب الأرض وسادتها لظلم عنصريّ إرهابي، لا كما يروج بأنها طرد “معتدٍ” و”محتل” واسترداد أرض “إسبانية “، وللأسف فإن كثر يتجاهلون هذه الحقائق ويلوكونها ويقدمونها دون وعي، رغم أن التمعن في وجه أي موريسكي من أصول أندلسية في شمال أفريقيا بالمغرب أو تونس يثبت دون فحص الجينات أنه غريب عن هذه الأرض “أندلسيّ” لاجئ، لا ينتمي لسحنة أهل البلد الذي أكرمه واحتضنه بعد قرار الجور بالطرد بعد التعذيب عام 1609م.
إذاً، فإن كانت جزيرة آيبريا ليست “كاثولوكية” قبل الفتح الإسلامي، وإن كانت جزيرة آيبريا ليست “شعباً واحداً” قبل الفتح الإسلامي ونفي عنها “إدعاء الإسبانية”، وإن كان المنكوبون في جزيرة آيبريا موحدين أندلسيين بما فيهم من يهود ومسلمين ومن أهلها وليسوا أعراقاً محتلة حسب التصوير السطحيّ الذي يروّج له، فبأي منطق يصبح الاستيلاء طرد أصحاب الأرض “استعادة واسترداد”؟ بأي منطق يصبح زعماء الممالك التي أسقطت الأندلس “مستردين” لا “مستولين” وهم الذين لم يكونوا يومًا منها ولا من أهلها ولا من تربطهم في هذه الأرض عقيدة بل ولم تكن لهم قبلها قائمة؟
____
(1) نقلاً عن لويس سيكودي لوثينا: الوثائق العربية الغرناطية وقيمتها التاريخية، صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد ، المجلسد الساعة والثامن 19590 1960 ص 85 -108، وثائق عربية غرناطية من القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي ( مدريد 1380-1961) 9م.
الأندلس أرض المسلمين سلبت منهم بالقوة بمساعدة الخائنين من الملوك والطوائف و المرتزقة فهل يحق لنا استرداد أرضنا وارض أجدادنا المهجرين منها قهرا.