أسطورة زقاق الرؤوس في قرطبة

أسطورة زقاق الرؤوس في قرطبة

سميرة فخرالدين

 

تعتقد أنك شجاع بما فيه الكفاية؟ أدعوك للمرور بهذا الزقاق القرطبي المخيف ليلا!

إنه زقاق مخيف ومظلم. يقع في قرطبة. يسمى زقاق الرؤوس ! وسبب التسمية: أنه مُرِّرَت من خلاله رؤوس آدمية مُعلَّقة على الرماح في القرن العاشر. سبعة إخوة قُتِلوا. وفُصلَت رؤوسهم عن اجسادهم . وعُلقت على الرماح ومُررت من هنا أمام أنظار والدهم لتكون عبرة للغير .

من القتلة؟ إنهم فرسان مسلمون من جيش المنصور!

و الضحايا؟ سبعة إخوة من أمراء لارا !

يتعلق الأمر بأسطورة قشتالية الصياغة. أسطورة ليست كباقي الأساطير . لماذا؟

لأنها تحمل بين طياتها الكثير من الأحداث الحقيقية والتي وقعت بالفعل ! سنتعرف في سطور معدودات على الأسطورة القشتالية ثُمَ على الأحداث الحقيقية التاريخية التي حدثت بالفعل. وسنكتشف كيف حُوِّرَت الأحداث ليصنع منها أهل قشتالة حكاية تندرج ضمن ما يسمى بالتاريخسطورة، أي تاريخ وخرافة معًا. وقد تصنف أيضا ضمن ما سمي حديثا بالأسطورة السياسية، المهتمة بصناعة الأيديولوجيات التي تعتمد نشر الوعي الزائف.

يقع الزقاق المرتبط بالأسطورة بمنطقة لا خوديريا في قرطبة. هو زقاق قديم من القرون الوسطى مُتوج بسبعة أقواس، يسمى أيضا ” Calleja de los Arquillos “. يروي الزقاق أسطورة الأمراء السبعة من لارا Los siete infantes de lara. وهي قصة انتقام طويل الأمد بين عائلات متناحرة وصلت إلينا من خلال نصوص تاريخية قديمة.

……….

السياق التاريخي والأدبي

يتعلق الأمر بقصيدة ملحمية أو ملحمة بطولية قشتالية (بالإسبانية: Cantar de gesta) وهو الإسم الذي يطلق على الملحمة المكتوبة في العصور الوسطى أو على النوع الأدبي الطويل الذي يتعلق بسرد مناقب ومآثر شخصية بطولية تجسد فضائل نموذجية يقتدي بها المجتمع. عادة ما كان يلقيها الحكواتية المتجولون أمام الناس في القرى والمدن بسبب أمية المجتمع القشتالي في تلك الحقبة وقد يصاحبها موسيقى أو ألعاب بهلوانية. اسم الملحمة “الأمراء السبعة من لارا”. تحيل تسمية لارا Lara على ‘بيت لارا’ وهي طبقة من نبلاء اسبانيا منحدرة من قشتالة العصور الوسطى . و اسم لارا Lara مقتبس عن منطقة تاريخية ب ‘برغش Burgos ‘ تسمى ألفوث دي لارا Alfoz de Lara.

يعود أول نص مكتوب لهذه الأسطورة الى القرن الثالث عشر (حقبة سانشو الرابع Sancho IV (بلد الوليد، 12 مايو 1258 – توليدو، 25 أبريل 1295 ،كان يدعى “برافو”؛ بالإسبانية:”«el Bravo»”) وهو ملك قشتالة وليون. ولكن هناك حديث عن نسخة أقدم منها مفقودة دُوِّنت على الأرجح في الفترة مابين 1000 م 990.

صحيح أن الملحمة قشتالية الصياغة، ولكنها ترتبط بقرطبة الخلافة. وتعود أحداث هذه الأسطورة الى القرن العاشر الميلادي وبالتحديد الى عام 974 . وهي إحدى الحقب الزمنية المهمة في تاريخ المدينة. يتعلق الأمر بقرطبة الخلافة، قرطبة الحَكَم الثاني (961 -976)، و قرطبة الحاجب المنصور بن أبي عامر (981 – 1002) حيث شكلت المدينة قوة سياسية واقتصادية ومنارة للعلم والأدب و الثقافة في أوروبا.

……….

أسطورة الأمراء السبعة من لارا

في مقاطعة قشتالة تبدأ قصة انتقام ، حب ، دم و حرب . اصطحب أحد أسياد قشتالة، “سيد لارا” واسمه غونزالو غوستيوس Gonzalo Gustioz (o Gustios) أبنائه السبعة ” أمراء لارا ” لحضور عرس زواج كل من الفارس روي بيلاثكيث Ruy Velázquez و الدونا لامبرا Doña Lambra. حدث خلاف بين بعض أفراد الأسرتين “أمراء لارا و أسرة العروس الدونا لامبرا Doña Lambra” . تطورت حدة الخلاف فقتل ابن سيد لارا الأصغر أحد أقرباء العروس الدونا لامبرا. أقسمت هذه الأخيرة بالإنتقام لقريبها . حاكت مع زوجها الفارس روي بيلاثكيث Ruy Velázquez خطة للإنتقام من سيد لارا غونزالو غوستيوس Gonzalo Gustioz (o Gustios) للجرم الذي اقترفه ابنه في حق قريبها. بَعث الزوج الفارس روي بيلاثكيث Ruy Velázquez بسيد لارا في سفارة ديبلوماسية لقرطبة مصحوبا برسالة كُتِبَت باللغة العربية. وهي لغة يجهلها سيد لارا. وكانت هذه الرسالة مُوجهة للمنصور. حَمَلَها سيد لارا وإن جهل المحتوى. وقف بين يدي المنصور الذي تسلم الرسالة ثم طالع بدهشة مضمونها . كُتِب عليها: “اقتل الرسول” أي اقتل حامل الرسالة.

كانت تلك خطة الإنتقام التي حاكها روي بيلاثكيث Ruy Velázquez بتحريض من زوجته الدونا لامبرا Doña Lambra. ولكن المنصور رأف بحال سيد لارا لسيرته الحسنة ولسمعته الجيدة، لذلك لم يقتله واكتفى بسجنه. شاعت أخبار حبسه بقشتالة. وأمام امتناع المنصور عن تصفية سيد لارا، زادت الدونا لامبرا Doña Lambra تعطشا للإنتقام ورغبة في رؤية دم سائل من عائلة سيد لارا. فأخبرت أبنائه السبعة بسجن والدهم. حفزتهم للذهاب إلى قرطبة. و حرضتهم على مقاتلة جيش المنصور و نجدة والدهم.

انطلق الأبناء السبعة محملين بالعتاد والأسلحة نحو قرطبة نجدةً لوالدهم. تمتع الأبناء بقوة جسمانية وبمهارة قتالية عالية. قصدوا قرطبة من الجهة الشمالية عبر طريق Vía de la Plata . قام “الخائن” روي بيلاثكيث Ruy Velázquez بالوشاية بهم لدى المسلمين. أخبر جيوش المنصور بالطريق التي سيهاجم من خلالها أبناء سيد لارا قرطبة. وقع على يد أبناء سيد لارا عدة ضحايا من المسلمين. قاتلوا بعنف وقوة. فلم يجد المسلمون وسيلة أمام هذا الهجوم المفاجئ غير الدفاع بحيطة وحذر رميا بالسهام عن بعد.

سقط أبناء سيد لارا السبعة. وقُتلوا أثناء المواجهة. ثم فُصِلت رؤوسهم عن اجسادهم. ودخلت رؤوس الأمراء السبعة إلى قرطبة مُعلقَة على الرماح. مُررت من الزقاق المسمى حاليا زقاق الرؤوس . تأمل الأب المشهد القاسي. وطالع رؤوس أبناءه من شرفة البرج الذي أُسر به . استشعر المنصور ألم الوالد الذي أُصيب بالعمى حسرة على أبنائه، فأطلق سراحه رأفة به .

تقول الأسطورة أن الأب “سيد لارا” كان قد أقام علاقة عاطفية خلال فترة سجنه في قرطبة. مما جعل فراق سجن قرطبة صعباً هو الآخر. إذ سيترك حبيبته حبلى ليذوق من جديد فراق فلذة كبده الذي لم يرَّ النور بعد. وتمضي السنون فيعثر الأب على ابنه الإسباني – المسلم مودارا Mudarra فتتحقق المعجزة بأن يرتد بصيرا. وينتقم الإبن غير الشرعي لإخوته بتصفية كل من الدونا لمبرا وزوجها روي بيلاثكيث . شكَّل الإبن غير الشرعي مودارا Mudarra ، نموذج البطل الذي يقدمه أدب ملحمة البطولة القشتالي لِما يملكه من قوة خارقة وتصرفات فروسية و مثالية. أما بالنسبة للشخصيات الأخرى فهي تمتلك أدواراً محددة في رواية الملحمة ألا وهي إبراز الهدف البطولي وفضائل البطل الرئيسي، ومن هذه الشخصيات: المقربين والأعداء والمساعدين وغيرهم.

……….

الأحداث الحقيقية التي اقتُبِسَت عنها الأسطورة

يؤكد المؤرخ الإسباني خوان خوسي بريمو Juan José Primo (أستاذ التاريخ المعاصر والحاصل على الدكتوراه في التاريخ، وهو مؤلف لعدة كتب تتناول تاريخ قرطبة ) أن للأسطورة بُعداً واقعاً وحقيقياً حدث بالفعل. عاشت شخصية سيد لارا فعلا في قشتالة في القرن العاشر. وكان له أبناء سبعة أقوياء عُرفوا بالشدة وبالروح القتالية .

في حقبة المنصور، بعثت قشتالة بسفارة سِلمٍ وديبلوماسية إلى قرطبة. وكان من بين المبعوثين سيد لارا. لم تبتغ قشتالة فعلا السلم من خلال هذه البعثة الدبلوماسية . بل كانت عبارة عن بعثة – فخ – ابتغت من خلالها مهاجمة الحدود مع المسلمين. استغلت قشتالة هذه البعثة الديلوماسية فهاجمت الحدود مع المسلمين مع أبناء لارا السبعة بصفتهم محاربين أقوياء وفرسان. فلقى محاربي قشتالة هزيمة شنعاء توفي خلالها أبناء لارا. صادف الهجوم بأن كان الوالد ‘سيد لارا ‘ عند المنصور بصفته أحد أعضاء البعثة الدبلوماسية السلمية التي بعثت بها قشتالة. وما أن فطن المنصور للخدعة القشتالية ولهجومهم على الحدود حتى سجن سيد لارا. أي أن وفاة أبناء سيد لارا حقيقة تاريخية وكذلك سجن والدهم حقيقة تاريخية حدثت بالفعل. تقول الأسطورة أنهم قضوا في إلبكار el vacar بينما تؤكد الرواية التاريخية أنهم لقوا حتفهم في Soria . حيث سقطوا على يد المدافعين المسلمين الذين كلفوا بحماية تلك المنطقة الحدودية.

إذا زُرتَ يوما ما زقاق الرؤوس بقرطبة ستعثُرُ على لافتة عُلِّقَت على المنزل رقم 18 كتب عليها بأن سيد لارا سُجن بعين المكان، بينما تقول الأسطورة أنه سجن في برج عال. فهل سُجن سيد لارا في ذلك المنزل أم في أحد أبراج قرطبة العصور الوسطى ؟ يعتقد المؤرخ الإسباني خوان خوسي بريمو Juan José Primo أن سيد لارا سجن على الأرجح في مكان غير بعيد عن la Ermita de la aurora.

تقول الأسطورة أن المرأة التي أنجب منها سيد لارا ابنه مودارا كانت شقيقة المنصور. يتعلق الأمر بالتأكيد بعنصر أسطوري خيالي يهدف إلى إضافة شيء من التشويق والإثارة للحكاية. وهي إضافة مسيئة تتنزه عنها شخصية المنصور . بل كان المنصور هو من ارتبط بأجنبيات. وقد ذكر لنا المؤرخون أربعة من زوجات المنصور على الأقل، وهم أسماء بنت غالب الناصري، والذلفاء أم ولده عبد الملك وتريسا ابنة برمودو الثاني ملك ليون، وأوراكا ابنة سانشو الثاني ملك نافارا التي تزوجها عام 371 هـ، وأسلمت وسمّاها المنصور “عبدة” وهي أم ولده عبد الرحمن.

……….

يتعلق الأمر بأسطورة استهدفت تشجيع محاربي قشتالة على الحرب والقتال. تحمل فكرة الذهاب نحو الموت وهي نوعا ما من المثالية. وهذه الفكرة تتجسد في ذهاب أبناء لارا الأسطوري نحو حتفهم عن رضى وإقدام وقناعة من أجل إنقاذ والدهم. وهي فكرة نبيلة إذا ما قورنت بالنسخة الحقيقية التاريخية السلبية التي تؤكد ذهاب أبناء لارا في هجوم – فخ – من اجل الغدر بجيوش المسلمين. تناقل المجتمع القشتالي حكاية سيد لارا شفاهاً من جيل إلى آخر وحُفِظت بقوة الذاكرة قبل كتابة النص . وتتسم هذه الحكاية ببعض الخرافة وإغراق في الخيال، وبعدها عن الواقع، لكن لها أصلاً بسيطاً جدا في الحقيقة . إننا أمام أسطورة قشتالية الصياغة، قرطبية الأحداث. أسطورة مثيرة و غامضة. كقرطبة الغامضة :

جغرافيا رائعة ،

تاريخ غني ،

أزقة ساحرة فريدة ،

ولكن !جميعها غامضة …!

فقرطبة مدينة قابلة جدا للعشق … أبدا للفهم!

 

زقاق، قرطبة، الأمراء السبعة من لارا، قشتالة، أسطورة

 

 

 

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *