أبو بكر الطرطوشي

أبو بكر الطرطوشي

العالم الفقيه أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الطرطوشي “الملقّب بإبن أبيرندقة” ولد فى سنة 451 هـ أو 450 هـ- 1059م، وأصله من مدينة طرطوشة بالأندلس ومنها جاءت كنيته الطرطوشي.

ومدينة طرطوشة كما وصفها ياقوت الحموي فيكتابه معجم البلدان، مدينة كبيرة من مُدن الأندلس، تقوم على سفح جبل إلى الشرق من بلنسية وقرطبة، بينها وبين البحر عشرون ميلًا، وهي مدينة منيعة يحيط بها سور من الصخر حصين بناه بنو أمية، وللسور أربعة أبواب ملبسة كلها بالحديد، ولها دار لصناعة السفن، ففي المدينة وعلى جبالها ينبت شجر الصنوبر الذى لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ولا يفعل فيه السوس ما يفعله فى غيره من الخشب، ومنه تُتخذ الصوارى والسفن. (1) وهي الآن تابعة لإقليم كتالونيا بإسبانيا وفيها بقايا من الآثار الأندلسية مثل القلعة التى تعود لعصر الخليفة عبد الرحمن الناصر ويسميها الإسبان القلعة السودا “La Zuda”.

نشأته ودراسته

تلقى أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي العلم فى مسجد طرطوشة الكبير، ولما شب رحل إلى مُدن الأندلس الكبيرة ليستزيد من العلم، فذهب إلى سرقسطة، وصحب القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة، والشيخ الباجي كان فى ذلك الوقت شيخ الأندلس وعالمها بلا منازع وخاصة بعد وفاة الإمام بن حزم، وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وأجازه الباجي، ويقول المقري فى نفح الطيب إن الطرطوشي قرأ على أبي محمد بن حزم فى إشبيلية، ولكن لا نميل إلى تصديق ذلك القول لأن الإمام بن حزم كان قد توفي في سنة 456 هـ ولم يكن الطرطوشي في هذه السنة قد تجاوز الخامسة أو السادسة من عمره. (2)

لا نعرف شيء عن أُسرة الطرطوشي سوى ما ذكره فى كتابه “سراج الملوك” بأن والدته كانت من سرقسطة وربما لهذا ذهب أولًا إلى هذه المدينة لتلقي العلم، كما أن خال والدته كان من المجاهدين الأبطال وكان اسمه ابو الوليد بن فتحون.

كان الطرطوشي زاهدًا ورعًا يغلب عليه الخوف من الله، وكان يعيش عيشة صلاح وتقوى متقللًا من الدنيا، قوّالًا للحق، وكان يقول: “إذا عرض لك أمران أمر دنيا وأخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى”. (3)

رحلته إلى الشرق- مكة و بغداد

في سنة 476 هـ غادر الطرطوشي إلى الشرق، فذهب إلى مكة لأداء فريضة الحج وتلقّى فيها بعض الدروس ثم رحل إلى بغداد وكان يلي أمور الشرق في ذلك الوقت نظام الملك -وزير الملكين السلجوقيين ألب أرسلان وملك شاه- وهو وزير عالم يحب العلم والعلماء، ويقرّبهم إليه، ويغدق عليهم العطايا، وقد شهد الطرطوشي أثناء مقامه في بغداد آثار هذه السياسة العلمية الحصيفة التى اصطنعها نظام الملك لنفسه وللدولة، وأشاد بذكرها فى كتابه “سراج الملوك”.

ورغم أن الطرطوشي كان مالكي المذهب إلا أنه تتلمذ على يد فقهاء الشافعية وعلى بعض فقهاء الحنابلة مثل أبيبكر الشاشي، وأبي حمد الجرجاني، أئمة الشافعية، وأبي محمد التميمي الحنبلي وغيرهم.(4)

رحلته إلى الشام – جبل لبنان والقدس

دخل أبو بكر الطرطوشي الشام بعد أن أتم دراسته، وبعد أنحصّل من العلوم ما حصل وبعد أن بلغ من النضج الفكري درجة تؤهله للتدريس لينفع الناس بعلمه، وأقبل الناس عليه وأحبّوه، وأفادوا من علمه، وعاش هناك متقشفًا زاهدًا، وكان أصحاب الحكم والسلطان يسعون إليه وإلى بره، ولكنه كان ينصرف عنهم، ويشتد عليهم فى القول وإسداء النصيحة(5) سكن بيت المقدس فترة وعاش في زهد وتقشف وكان يجانب السلطان ويرفض الذهاب إليه ويروى الطرطوشي عن نفسه أنه كان نائماً فيبيت المقدس وسمع صوتًا حزينًا ينشد:

أخوف ونوم؟ إن ذا لعجيب! * ثكلتك من قلب، فأنت كذوب

أما وجلال الله، لو كنت صادقًا * لما كان للإغماض منك نصيب

فقال الطرطوشيرحمه الله-: “فأيقظ الصوت النوام وأبكى العيون”.

ويذكر الضبي فى “بغية الملتمس” أن من بين الداوفع التي دفعت الطرطوشي لزيارة بيت المقدس رغبته فى مقابلة أبي حامد الغزالي فقد فاتته رؤيته في بغداد ولكنه لم يستطيع مقابلته فانصرف إلى جبل لبنان فقضى به مدة أخرى.

رحلته إلى أنطاكية

من المرجح أن الطرطوشي زار دمشق وحلب وعدد من مُدن الشام الأخرى قبل أن يصل إلى انطاكية، ويبدوا أن الحرب الصليبية الأولى التى وفدت إلى الشرق سنة 490 هـ وكان استيلائهم على انطاكية فى سنة 491 هـ هي ما دفعت الطرطوشي إلى مغادرة بلاد الشام والذهاب إلى مصر، ونزل أول ما نزل في مدينة رشيد ثم غادرها إلى مدينة الإسكندرية واستقر بها وكان ذلك فى زمن الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى الذي قابله الطرطوشي، وهنا يذكر لنا المقري الحديث الذى دار بينهما “اذ دخل مرة على الأفضل أمير الجيوش فوعظه وقال له: “إن الأمر الذى أصبحت فيه من المُلك، إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك، فاتق الله فيما خوّلك من هذه الأمة، فإن الله عز وجل سائلك عن النقير والقطمير، فافتح الباب وسهل الحجاب”.(6)

رحلته إلى مصر- الإسكندرية

عندما وصل الطرطوشي إلى رشيد وسمع أهل الإسكندرية بوصوله ذهب وفد منهم يطلبون منه القدوم معهم إلى الإسكندرية حيث كانت هناك فتنة قد حلّت بالبلاد قبل وصول الطرطوشي قتل فيها الوزير الأفضل الكثير من الأعيان والعلماء، حتى أصبحت المدينة خالية من العلماء، وظلّوا به حتى وافقهم على الذهاب معهم إلى المدينة التى استقر بها واتخذها وطنًا ثانيًا، وبدأ يدرّس وينشر فيها العلم على مذهب الإمام مالك، وتقاطر الناس عليه وعلى حلقاته، وقد وصف هو حالته عندما وصل الإسكندرية فقال: “إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية لما كانت عليه في أيام الشيعة من ترك إقامة الجمعة ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم أقول له: وجدت فيها قومًا ضلالًا فكنت سبب هدايتهم”.

تزوج من سيدة فاضلة من أهل الإسكندرية وأطلقت يده فى أموالها ووهبته داراً من أملاكها جلع سكنه معها فى الدور الأعلى واتخذ من الدور الأسفل مدرسة يلقي فيها دروسه ويستضيف فيها طلاب العلم من الغرباء الوافدين على المدينة. (7)

حقد عليه الوزير الأفضل واستدعاه إلى القاهرة، وحدد إقامته في مسجد الرصد جنوبى الفسطاط، وبقي فيه حوالي السنة إلى أن قُتل الأفضل، وتولّى الوزارة المأمون البطائحي، فعاد الطرطوشي إلى الإسكندرية، وألف فيها أهم وأشهر كتبه “سراج الملوك” واهداه للمأمون الذي ما أن دخل عليه الطرطوشي حتى نزل المأمون بين يديه كالتلميذ بين يدي أستاذه، ما يدل على عظم مكانة الشيخ الطرطوشي عند المأمون.

تلاميذ الطرطوشى ورسالته إلى يوسف بن تاشفين

من تلاميذ الطرطوشي أبو بكرمحمد بن العربي الإشبيلي، الذى قبل أن يغادر الإسكندرية حمّله الطرطوشي رسالة إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، يقدم إليه فيها النصح بأن يلتزم حدود الدين في أوامره ونواهيه، وأن يرعى الله في رعيته وأن يفتح بابه لكل صاحب مظلمة، ثم أوصى السلطان خيرًا بتلميذه ابن العربي، الذى عاد إلى وطنه محملًا بهذه الوصية والتزيكة من استاذه فأكرمه أمير المؤمنين وعينه قاضيًا على مدينة إشبيلية. (8)

مؤلفاته

أهم مؤلفات الطرطوشي هو كتابه “سراج الملوك” وهو أهم كتبه جميعًا وأقيمها، وتحدث فيه الطرطوشي عن مواعظ الملوك ومقامات العلماء والصالحين عند الأمراء والسلاطين وعلاقة السلطان بالجند وبيت المال وما إلى غيره من امور تتصل بسياسة الملك وفن الحكم والتدبير في أمور الرعية.

وفاته

توفي بالإسكندرية فيسنة 520هـ/ 1126م أو 525هـ/ 1130 على قول آخر وقبره ومسجده -رحمه الله- في شارع السكة الجديدة- الباب الأخضر-حي الجمارك . ويذكر المقري أنه زار قبره مراًر عندما نزل مصر.

من شعر الإمام الطرطوشي:

أقلّب طرفى فى السماء ترددًا لعلى أرى النجم الذى أنت تنظر

وأستعرض الركبان من كل وجهة لعلى بمن قد شم عرفك أظفر

واستقبل الأرواح عند هبوبها لعل نسيم الريح عنك يخبر

وأمشى ومالى فى الطريق مآرب عسى نغمة بإسم الحبيب ستذكر

وألمح من ألقاه من غير حاجة عسى لمحة من نور وجهك تسفر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – ياقوت عبد الله بن عبد الله الحموى، معجم الأدباء

2 – جمال الدين الشيال، أبو بكر الطرطوشى العالم الزاهد الثائر ص 8

3 – المقرى التلمسانى، نفح الطيب ج 2 ص 87

4 -جمال الدين الشيال، المرجع السابق ص 26 و 27

5 – جمال الدين الشيال، المرجع السابق ص 29

6 – المقرى التلمسانى، نفح الطيب ج2 ص 87

7 – جمال الدين الشيال، المرجع السابق ص 46

8 – جمال الدين الشيال، المرجع السابق ص 68 و 69

المواضيع ذات الصلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *