صفحة من الغناء والموسيقي في الأندلس
للكاتب : هيثم السايس *
في المغرب العربي الأن بقايا حضارية ممن كانت في الاندلس لمدة ثماني قرون ، حيث تجد في مدن طنجة والرباط ومراكش وتونس والجزائر وغيرها من المدن المغاربية العربية بقايا أندلسية تجدها في الطرق والبيوت البيضاء والزرقاء كالتي توجد في الساحل المقابل في الاندلس ،ومن ضمن تلك البقايا الحضارية الغناء الاندلسي بعذوبته ورقته ومقامته الرائعة والكلمات سواء من الأزجال أو الموشحات التي أسست فيما بعد فن “الفلامنكو” الشهير والذى ينتمي الي أصل عربي من بقايا الحضارة الأندلسية .
أما الغناء وتاريخه فهو مرتبط بتاريخ الاندلس خاصة في العصر الأموى ، فما ان أستقر الأمر في الاندلس حتي بدأت الحضارة في الظهور خاصة في عهد الدولة الاموية ، حيث قضت هذه الدولة علي الاضطرابات السياسية والعرقية في الاندلس طوال عهد الولاة ، وهذا الاستقرار كان دافعا قويا لبداية ظهور العلوم والفنون وتطورها سريعا تحت رعاية الدولة والأمراء الذين رأو ان تنافسية الأندلس بين الأمم من أولويات الدولة وقد كان الغناء والموسيقي من هذه الفنون التي أزدهرت في هذا الوقت .
ومن ضمن العوامل القوية التي جعلت الأندلس تتفوق في هذه الفنون الي جانب الأستقرار هي الطبيعة الغنّاء للبلاد حيث مروج وسهول وجبال وطقس جيد طوال العام دفع الأمة الاندلسية في الميل الي الفنون الموسيقية ونجد ان في وقت مبكر بعض النقوش المنحوتة علي علب العاج وهي تظهر مجالس الغناء ، كما ان الاندلسيين كانوا يقرأون القرأن بألحان تختلف عن أهل المشرق مما يدل علي اختراعهم لنوع جديد من المقامات الموسيقية وهذا علي حد قول أبو بكر الطرطوشي الاندلسي في كتابه “الحوادث والبدع”، وإن كان الطرطوشي يتحدث في مرحلة متأخرة نوعا حيث كان يتحدث عن فترة ما بعد ملوك الطوائف ..
إن أهم العوامل في تطور الغناء والموسيقي الأندلسية هو قدوم الفنانين المشارقة لا سيما من الحجاز والعراق حاملين الكثير من الفنون المشرقية في الغناء والموسيقي مما أنعش الفن الأندلسي في فترة الأمويين ، ومن أشهر الأمثلة علي ذلك كان أبو الحسن علي بن نافع الشهير بزرياب ، وقد كان حجر الزاوية في التطور الموسيقي بل والمجتمعي للأندلس في هذا الوقت .
لقد خرج زرياب من العراق حيث كان في بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد ووصل الي الأندلس في أواخر عهد الحكم بن هشام الربضي ثالث حكام بني امية في الاندلس وما ان وطأت قدمه الجزيرة الخضراء حتي وصلت الأنباء بموت الحكم وتولي إبنه عبد الرحمن الثاني او الأوسط الذى بعث إليه يستقدمه الي قرطبة .
كان زرياب يعتبر من أهم جسور التواصل بين الحضارة العباسية والأندلسية وكان مؤثرا قويا في تطور الحياة الإجتماعية والفنية في قرطبة العاصمة الأندلسية فقد كان مما أدخله فن تقديم الطعام ، وايضا التطور النوعي للملابس فقام بتقسيم الملابس علي فصول السنة الاربعة ، أما من ناحية الغناء فقد طور الألحان الأندلسية وقام بإختراع التخت والكورس الغنائي كمساعد للمغني في أداءه ، كما أضاف وترا خامسا للعود ،واستخدم مضرب العود من قوادم النسر بدلاً من الخشب ، ويعتبر زرياب هو من أسس المدرسة ابموسيقية الأندلسية كما قال ابن خلدون انه هو من أسس صناعة الغناء في الاندلس .
لقد كانت ايضا من العوامل القوية لتطور الغناء والموسيقي في الأندلس الأزجال والموشحات والأشعار الأندلسية الخاصة التي لا يوجد لها مثيلاً في اي من الأقاليم الإسلامية سواء في المشرق أو المغرب ، حيث يقول أحمد امين في ظهر الإسلام إن فن الموشحات والأزجال الأندلسية تعبيراً عن الطبيعة الأندلسية ،وقد أستجاب الأندلسيين لها بسبب أنهم رأوها انها الأقرب الي التعبير عن أنفسهم ،وكانت مناسبة للمغنيين المتجولين في المدن وقد كانوا يتكسبون بغناءهم .
ولم ينته الأمر عند ذلك فنجد خيرة الكتاب الاندلسيين يؤلفون في الموسيقي وأنواعها ويكتبون الرسائل في فن الموسيقي كرسائل عباس بن فرناس الذى فك رموز كتاب العروض للخليل بن أحمد والذى يعتبر الأب الروحي للمقامات الموسيقية ، كما نجد المؤلف يحيي الخدج المرسي الذى ألف كتاب الأغاني الأندلسية .
ولقد كان هذا الزخم التأليفي والفعلي للموسيقي الاندلسية دافعا الي تدفق هذا الي الطبقات الدنيا في الأندلس ، حيث تشير المصادر التاريخية الي وجود شخصية الزامر الذى كان اساسياً في كل الحفلات والأعراس الاندلسية ،وهذا يدل الي قبول الناس عموما للموسيقي الأندلسية وتأثرهم بها ، كما نجد ان الفقهاء منهم من اجازوها مثل ابن حزم في رسالته الغناء الملهي ومن هو مباح او محظور وصاحب كتاب طوق الحمامة وقد افرد للغناء والموسيقي فيه كلاماً ، ومن الفقهاء من رد عليه وانتقده مثل ابن حيان المؤرخ المشهور الذى اتهمه بالتساهل في مسائل الغناء كما كان كثير من الفقهاء يتشددون في أمر الموسيقي والغناء .
وبالرغم من ذلك نجد ان مدناً بأكملها كانت مشهورة بالألات الموسيقية والغناء كإشبيلية التي قيل عنها انها مثل قرطبة في العلم وانها منارة الفن ، وهذا يتضح منه ان الغناء لم يكن حبيساً للقصور والمجالس المغلقة بل أمتد الي البيوت العادية والطرقات احيانا .
ولقد أمتدت المؤثرات الموسيقية الاندلسية الي الممالك النصرانية في الشمال ،مثل جيليقية وبرشلونة وغيرها ، وقد أمتد ايضا في العصور المتأخرة خاصة مع امتداد حركة الحروب بين المسلمين وهذه الممالك وسقوط معظم القواعد الأندلسية الكبرى في أيديهم وكان هذا إيذانا بإنتشار فن الموسيقي الشعبي الكلاسيكي والذى تطور الي فن الفلامنكو وغيرها من الفنون .
مصادر ومراجع :
ابن خلدون ، المقدمة
الطرطوشي ، الحوادث والبدع
أحمد أمين ، ظهر الإسلام
إحسان عباس ، تاريخ الادب الاندلسي
حسين دويدار ، المجتمع الاندلسي في العصر الاموى
-
هيثم السايس باحث وكاتب، للتواصل البريد الإلكتروني @من هنا